برامج اصدقاء العاب ابحاث مشكلات دردشه كل ما هو جديدفى عالم الموضه الازياء الجمال

الاثنين، 27 يوليو 2009

الفلسفة والدين

تميهد:
يعود اهتمامي بسلامة موسى إلى أمد بعيد كان بدأ، وأنا طالب في جامعة موسكو، مؤكداً، في الوقت نفسه، أنه اهتمام شخصي لا صله له بالدراسة الجامعية. وقد تواصل هذا الاهتمام إلى هذه اللحظة. وأغلب الظن أنه سيتواصل ما حييت، ذلك لأنه شدني بفكره منذ أن بدأت أتعرف إليه. وأذكر أن من الكتب التي جذبتني، ودفعتني إلى تقديره أيّما تقدير، كتاب "المرأة ليست لعبة الرجل". ومن الجدير بالذكر، أنني كتبت أكثر من بحث عن جوانب في فكره. وما كتبته، بين المنشور، والمخطوط، يؤلف كتاباً، ولعل أهم بحث قمت بإعداده هو "سلامة موسى والفلسفة"، المنشور في كتاب "الفلسفة العربية المعاصرة (مواقف ودراسات)". وهو أقرب إلى الوصف، منه إلى التحليل. وقد يخطر ببال القراء أن يسألوا عمّا يلي:
لماذا العودة إليه؟ هل من جديد يمكن أن يضاف إلى ما كتبته، وما كتبه آخرون؟ هل يستحق كل هذا الاهتمام؟ هل "سلامة موسى: الدين والعلمانية" موضوع جدير بالبحث؟ ألم يُتناول من قبل الباحثين والدارسين؟ ألم يُعالج هذا الموضوع، على سبيل المثال لا الحصر، في آخر كتاب صدر عنه، أعني "سلامة موسى ـ من رواد الفكر العلمي العربي المعاصر" تأليف د. أيوب أبو ديه؟
هذه الأسئلة وغيرها هي أسئلة مشروعة، ويتعين، بنظري، طرحها. ولكن، لا بد أولاً من طرح السؤال الأهم، وهو: هل سلامة موسى، عامة، جدير بأن يكون موضوع بحث؟
ثمة أحكام أصدرها باحثون درسوا فكره، وأشخاص عرفوه عن كثب. وفي اعتقادي أنهم كثر.
لا شك أن سلامة موسى، هو واحد من أبرز المثقفين والمفكرين العرب في النصف الأول من القرن الفائت. وأدلل على ذلك بما قاله عدد من الدراسين. يقول أ. محمود الشرقاوي(1)، وهو أحد الأشخاص الذين عرفوه حق المعرفة، إن س. موسى كان ذا أثر بالغ في حياة عشرات الألوف من الشباب الذين قرءوا له، وتأثروا به، وذا "أثر كبير في حياة مصر الثقافية والأدبية. وسيظل هذا الأثر أيضاً ممتداً وراسخاً في المستقبل إلى مدى طويل" (1، 24). ويستطرد قائلاً إن الحياة الفكرية في مصر والشرق فقدت برحيله "رائداً مكافحاً قل أن تجد بعده من يماثله ويسد مسده" (1، 22).
وإذا كان أ. الشرقاوي يكتفي بتسليط الضوء على أثره في مصر، فإن أ. كمال عبد اللطيف يؤكد أن س. موسى مارس في النصف الأول من القرن العشرين " حضوراً ثقافياً في مناخ الفكر العربي المعاصر" (2، 231)، وعانق هذا الحضور، قضايا مصر الكبرى، همومها وطموحاتها في الثقافة والسياسية والاجتماع والأدب. ويحدد أ. كمال عبد اللطيف هذا الحضور قائلاً إن س. موسى أسس ما يمكن أن يُسمى ب" الجبهة الثقافية النقدية"، الجبهة التي يجد لها امتدادات متعددة، وصوراً وأشكالاً متعددة في حقل الممارسة الثقافية العربية المعاصرة". ويذهب أ. عبد اللطيف إلى أن الممارسة النظرية لكل من عبد الكريم الخطبيي وعبد الله العروي تمثل "امتداداً متقدماً لهذه الجبهة النقدية" (2، 240-242).
أمّا الباحث أنور عبد الملك، فيؤكد أن العقلية المصرية تغيرت في القرن العشرين، وبدأت تساير العالم المعاصر بفضل سلامة موسى. ويدلل على ذلك بأن الجيل الذي يمسك بدفه الأمور تربى على أساس كتبه الأربعين. ونحن، كما يقول الباحث، نفكر ونبني ونتحرك على "هدي الثورة الذهنية الكبيره التي كان رائدها سلامة موسى" (3، 288). إنه، أي س. موسى، رائد الفكرة المصرية، والتفكير العلمي، والثورة الصناعـة ، والتطـور، والاشتراكيـة، والثقافة الجديـدة، والسلام. ويعتقد أ. أنور عبد الملك أن كل مثقف عربي " يدين لـه بمفاتيح المستقبل" ( 3، 288). ويخلص إلى أنه " المؤسس الحقيقي للعقلانية وللاشتراكية في مصر وفي العالم العربي" (17، 88).
ويذكر أ. محمود أمين العالم فضل س. موسى في إشاعة الفكر العلمي وتعميمه بين الناس، وتطبيقه على الحياة الاجتماعية، مؤكداً أنه كان، لفترة طويله، رائداً فكرياً لعدد كبير من المثقفين في جمعية الشبان المسيحيين. ويخلص إلى أنه كان "بحق معلماً لجيل كامل" (4، 33).
وفي نظر غالي شكري يُعد س. موسى نموذجاً نادراً في ثقافتنا للكاتب الذي لا يموت بموته، بل يزداد حياة. إنه "المعلم الأول الذي أهدانا منهج الانطلاق اللانهائي.."، وعلّمنا أن "التقولب" يعني الموت". إنه رائد الفكر العلمي، بل أب النظره العلمية " في ميادين الفكر العديدة" (5، 10 و 176). وقد كان س. موسى، بنظره، المفكر المصري الوحيد الذي يمكن أن يُدعى "بمفكر العصر" (5، 16). زد على ذلك أنه " أعظم المفكرين المصريين طيلة نصف قرن" (6، 176).
ويرى د. مجدي حافظ الذي نشر فصلاً من الرسالة التي أعدها لنيل الدكتوراه من جامعة باريس، في كتاب بعنوان: سلامة موسى بين النهضة والتطور، أن س. موسى يمثل " ضمير جيل بأكمله، كما أنه شاهد نزيه على عصر أراد أن يخلصه من أوهامه وجهله ومرضه". وقد كان "أكثر أبناء جيله اندماجاً في واقعة وتأثيراً فيه، يعرفه المثقفون من الدرجات الرفيعة، كما يعرفه صعاليك الفكر والثقافة والأدب، ورجل الشارع بنفس الدرجة. إذا كان يتوجه بأفكاره واجتهاداته إليهم جميعاً" (7، 7).
ويقول الروائي الراحل حامل جائزة نوبل نجيب محفوظ في حديث كان أجراه أ. غالي شكري، ونشرته مجلة الوطن العربي في فبراير/شباط عام 1988 ما يلي: "عشر سنوات كاملة، بين 1929و 1939، كان سلامة موسى هو الراعي والمربي والناقد الأدبي لي". "إنه أستاذي العظيم. ومن النادر في الماضي أو الحاضر أن نجد رجلاً مثله يكتشف الموهبة، ويواكب نموها بالرعاية الكاملة، حتى تصل. ومن النادر كذلك أن تجد مثل الأخلاق الرفيعة التي كان عليها" (8، 119).
ويلقي د. لويس عوض في كتابه: "أوراق العمر" شيئاً من الضوء على شخصية س. موسى، والدور الذي أداه في توجيهه نحو قرارات مختارة، وصوب اتجاهات معينة. وما يعنيني، هنا، في هذا السياق، قول د. عوض إن س. موسى "كان غزير العلم في غير تكلف"، وما "أن يبدأ الكلام حتى يتدفق علمه الموسوعي، ويتجلى ذكاؤه الحاد كالنصل القاطع" (8، 120).
والواقع أن الآراء التي أبديت في س. موسى كثيرة، وليست كلها إيجابية، ذلك لأنه تصدى لفئة معينة من الكتاب الذين عدهم رجعيين(1)، ودعاة إلى ثقافة الماضي، وسياسة السلطة. وربما كان عباس العقاد الكاتب الذي تصدى له س. موسى أكثر من غيره جرّاء ذلك. ورغم الخصومة الشديدة بينهما، فقد كتب العقاد عنه عقب وفاته ما يلي: "صفتان يستوفيهما الكاتب فيذكر ويستحق أن يذكر"، وهاتان الصفتان همـا " أن يكـون صاحب رسـالة، وأن يكـون في رسالتـه رائداً عـلى نحو من الأنحاء. وقد كان سلامة موسى" على حظ موفور من هاتين الصفتين" (1، 87-88).
وهؤلاء الكتاب، بدورهم، شنوا حملات(1) شنيعة ضده، فضلاً عن الانتقادات التي وجهت إلى كتاباته. ولست معنيا، ها هنا، بإضاء هذه الحملات، والانتقادات.
اختم هذه التمهيد لمكانة سلامة موسى، في الثقافة العربية المعاصرة برأي الناقد د. محمد مندور، الذي أكد أن س. موسى رائد "من أكبر رواد الفكر العربي المعاصر في ميادينه المختلفة سياسية كانت أم اجتماعية أم ثقافية" (9، 5). وهذا الرائد الكبير، يُعدّ، بنظره، "موسوعة علمية كبيرة في كافة مجالات الثقافة. وقد انفق عمره كله في تقريب الثقافة العالمية التحررية التقدمية من مواطنيه، وإيضاح أوجه الإفادة منها والانتفاع بها، وأضاف إلى تلك الثقافة العالمية ما يتفق وبيئتنا الشرقية الخاصة ليعزز ما فيها من منابع القوة والانطلاق ويسدد ما فيها من مواضع الضعف والتقهقر" (9، 5-6). لقد كان س. موسى، برأيه، "من نقاد الحياه وموجهيها على السواء. وساهم بكل ما يملك من قوة في هدم القديم البالي الضار وتمهيد السبيل لبناء الجديد القوي النافع. وبذلك يعتبر سلامة موسى من كبار المهندسين الذي عملوا على بناء عقليتنا العصرية المتحضرة الآخذة بأسباب التخلص من القديم البالي واعتناق الجديد النافع". (9، 6).
ومهما يكن رأينا في ما تقدم، وفي ما ذهب إليه خصومه، فإن الذي لا شك فيه أن س. موسى كان أحد أعلام الثقافة(1) العربية عامه، والمصرية خاصة، طوال خمسة عقود من القرن الفائت.
أعود إلى عنوان هذا الفصل، وإلى السؤال عن جدارة هذا العنوان بالتناول. لقد صدرت كتب ودراسات ومقالات، و فصول في كتب، عن جوانب عديدة من فكر س. موسى. وفي اعتقادي أن أهم كتاب، وربما كان أول كتاب ذا طابع علمي يصدر عنه هو " سلامة موسى وأزمة الضمير العربي" الصادر عام 1962، بقلـم د. غالي شكري. ورغم أن هذا الكتاب شامل، من حيث الإضاءة، لأبعاد عديدة من فكر س. موسى، إلاّ أنه لم يتناول بالتخصيص علمانية سلامة موسى، إذا اكتفى بتسليط قليل من الضوء على آرائه في الدين.
ما تقدم لا يقلل من أهمية الكتاب المذكور، آخذين بعين الاعتبار أنه الكتاب الرائد عن مفكرنا. أمّا الكتاب العلمي الآخر، فهو " سلامة موسى وإشكالية النهضة" الصادر عام 1982، تأليف: كمال عبد اللطيف. وهذا الكتاب عبارة عن رسالة علمية كان أعدها أ. كمال عبد اللطيف. ويبدو أنه لم يُعن، في رسالته، بعلمانية س. موسى. إن ما يلحظه القارئ هو بعض الالتفاتات إليها لا أكثر. وتلك الالتفاتات لا تؤلف فصلاً كاملاً، بل لا تتجاوز بضع صفحات، (11، 101و 119-122و 139 و 183-4، 186-7، 228)، رغم أن العقلانية اللائكية "تحدد ركناً من أركان المشروع التحديثي الموسوي"، و"تشكل مفهوماً تقريرياً في الخطاب الموسوي"، ويزيد قائلاً إنها " تحدد مع دعوته النقدية العامة وتبشيره بالقيم العلمية، مجموع الدعوة العقلانية الموسوية" (11، 186).
ما سبق ذكره ليس نقداً، بل مجرد لفت نظر إلى أن الرسالة/ الكتاب لم تنطو على اهتمام بعلمانية س. موسى، رغم اعتقاد ك. عبد اللطيف الجازم بأنها مكوّن رئيس من مكوّنات مشروعه التحديثي.
وبالنظر إلى الشمولية التي يتصف بها كتاب "العلمانية من منظور مختلف"، تأليف د. عزيز العظمة، فإن علمانية س. موسى لم تحظ باهتمام يذكر، رغم إنه يحذو حذو أ, كمال عبد اللطيف بقوله إن " موقف س. موسى من أكثر المواقف جذرية تجاه الدين، إذ كـان ذا نفس إلحادي غابت عنه اللاأدريه أو الإلهية التي طبعت جـل المواقف" (12، 223). وبعد أن يؤكد د. العظمه أن "التيار العلماني الشامل والأخذ بالعلمانية في أسسها المادية ونتائجها الاجتماعية كان تياراً صغيراً لم يزد على ما كان عليه في أوروبا"، يذهب إلى أن من مثّل هذا التيار أفضل تمثيل كان "شبلي الشميّل ثم سلامة موسى" (12، 182)، فإن هذا التمثيل لِ س. موسى لم يحتم على د. العظمه أن يسلط شيئاً من الضوء على هذا الضرب من ضروب العلمانية الذي تبناه س. موسى.
وإذا كان الكتاب السالف الذكر يعد، برأي، من أهم الكتب في مجال العلمانية في الوطن العربي، من النواحي التاريخية والاجتماعية والفكرية، فإن كتاب "الأسس الفلسفية للعلمانية"، تأليف د. عادل ضاهر" يعد أهم كتاب في مجال العلمانية من الناحية الفلسفية. والجدير بالذكر أنه كتاب غير مسبوق، ولا أظن أن أحداً من الباحثين العرب قد واصل البحث في العلمانية، من هذه الزاوية. وواضح أن علمانية س. موسى لم تكن من المهام التي أراد د. ضاهر إنجازها في الكتاب المذكور. واستناداً إلى وجهة نظر مفادها أن شبلي شميّل وفرح انطون وسلامة موسى هم ممثلون بارزون " للاتجاه العلماني النهضوي في أواخر القرن التاسع عشر وحتى عشية الحرب العالمية الأولى(1)" (13، 50)، يرى د. محمد شيّا أن الإشارة إلى س. موسى "تبدو ضرورية جداً، ليس لأفكاره العلمانية التي شارك بها الرعيل النهضوي وحسب، وإنمـا كـذلك للدور الذي اضطلع بـه في تقديم المضمون الاشتراكـي إلى التيار الليبرالي العلماني، (13، 54). وفي اعتقاد د. شيّا أن س. موسى " لعلـه لا يضيف" كثيراً إلى ما أنجزه الشميّل وانطون. إن الإضـافة تتمثل، برأيه، " في دفعه مطلب الإصلاح نحو المضمون الاشتراكي وعلى قياس التجربة الغربية" (13، 55).
والواقع أن د. شيّا لم يُعن كثيراً، وبصورة معمقة، بعلمانية س. موسى في الصفحات التي أفردها لٍ "العلمنة واتجاهات النهضة العربية الحديثة". ويتضح ذلك عندما نلحظ أنه أعتمد القليل مما كتب عن س. موسى، واكتفى باقتباس فكرة واحده من كتابه " ما هي النهضة". ويلحظ من يقرأ كتاب محمود الشرقاوي "سلامة موسى المفكر والإنسان" أنه عُني بمواقفه إزاء الأديان ورجاله، وأفرد صفحات غير قليلة لذلك، منها صفحات عُنونت بـ "ديانة سلامة موسى" (1، 179-205).
وفضلاً عن الاقتباسات التي أخذها م. الشرقاوي من كتابات س. موسى، فقد أشار إلى آراء أبداها س. موسى، ومواقف اتخذها، في أثناء الاحاديث التي كانت تدور بينهما. وكان في أثناءها أكثر صراحة مما كان يكتبه. وفي اعتقاد م. الشرقاوي الجازم أنه كانه " خصماً واضحاً "لرجال الدين"، كل دين، كما كان مثل جميع الأحرار منكراً لسلطانهم على الناس" (1، 181). أنهم "خصومة الأولون، خصوم مبادئه وأفكاره، وخصوم شخصه" (1، 181). وكان بصراحة، وقسوة بالغة، "يتناول رجال الدين من كل جنس. وبروح المقاومة والمعارضة كان يكتب عنهم. وظل هذا حاله متحدثاً وكاتباً من بدء حياته إلى نهايتها" (1، 183). كما كان واضحاً تمام الوضوح في التشديد على أهمية فصل الدين عن الدولة. لذلك كان من أشد خصوم الحكومات اليثوقراطية.
ومن الجدير بالذكر أن مجلة "الطريق" كانت قد خصصت ملفاً لِ "سلامة موسى" مفكر نهضوي تنويري راهن"، شارك في الكتابه فيه عدد من الكتاب. واللافت د. ماهر الشريف تناول في بحثه ما ذهب إليه د. محمد عماره بشأن ما يسميه "معالم المشروع الفكري" لسلامة موسى، مدافعاً عنه، وراداً الاتهامات التي يوجهها إليه، ولا سيما اتهامه بالإلحاد، واقتلاع الدين الإلهي. والواقع أن أحداً من كتاب ألملف لم يُعن عناية خاصة بعلمانيته، ورأيه في الدين، الأمر الذي لا ينفي انطواءه على بعض الكلام عليهما في بحثي د. الشريف، ود. مراد وهبه.
ويكتفي د. محمد كامل ضاهر بأن س. موسى ركز على ضرورة الفصل بين الدين كمؤسسة روحيه، والدولة كمؤسسة مدنية" (14، 288)، وأنه ذهب في "تفكيره العلماني" إلى حدوده القصوى، وذلك حين أعلن إيمانه "بالإشتراكية العلمية بوجهها الفابي، وبالفكر الماركسي: (14، 286). ويختم د. ضاهر بأن س. موسى "ظل حتى أواخر أيامه متشبثاً بمضمون خطابه النهوضي العلماني، ومدافعاً عنه بقوة وعناد".(14، 287).
يقتضينا الحق والأنصاف أن نقول إن د. ضاهر، رغم ما سبق ذكره، لم يُسلط قليلاً من الضوء على موضوعنا. وكلامه على علمانية س. موسى عبارة عن نزر يسير للغاية، لا يشفي غليل الباحث عنها.
إن المعنى بعلمانية س. موسى لم يتوقع أن يغفل البـرت حوراني عنهـا فـي الفصل العـاشر الذي عنـونه "طلائع العلمانية (الشميل – فرح انطون)، (15، 292-310). ما كان مرتقباً هو إيلاء هذا الموضوع قدراً من الاهتمام، ذلك لأن ش. شميل و ف. انطون وس. موسى يشكلون ثالوثاً(1) علمانياً يتعذر الكلام على اثنين منهم، وإقصاء الثالث. يقول د. مجيد خدّوري أن مفكراً مسيحياً آخر هو سلامة موسى "لم يقبل بالتعصب الديني وبالركود الفكري"، وذلك بتأثير شبلي شميّل وفرح وانطو،. (16، 104).
أما عبد الله العروي، فإنه في كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، لم يُعن، على أي وجه من الوجوه، بمكانه الدين في فكر س. موسى، وعلمانيته كذلك، رغم أن مفكرنا شغل باله، وأولاه اهتماماً معيناً بصفته "داعية التقنية"، وممثلاً لأحد تيارات ثلاثة. يقول ع. العروي: "يمكن أن نميز ضمن الأيديولوجيا العربية المعاصرة ثلاثة تيارات أساسية. يفترض التيار الأول أن أم المشكلات في المجتمع العربي الحديث تتعلق بالعقيدة الدينيه، والثاني بالتنظيم السياسي، والثالث بالنشاط العلمي والصناعي" (20، 39). وس. موسى هو أحد دعاه التيار الثالث، أو "داعية التقنية" (20، 47)، كما ينعته في أكثر من موضع في الكتاب المذكور. وهذا الداعية يـردد، برأيـه، مواعـظ كونت وسبنسر (20، 53)، ويستقي "روح فكره" مما كتبه ويلز وبرناردشو. (20، 57). وإذ يؤكد ع. العروي أن س. موسى يُقرا اليوم في المغرب "أكثـر ممـا يقرأ في الشرق العربي" (20، 53) يخلص إلى أن الثلاثي ـ الشيخ، الزعيم السياسي، الداعية إلى التقنية ـ "يهيمن على وعي المغاربة: كما يهيمن على وعي المشارقة" (20، 71). ورغم أن الدعوة إلى التقنية تستلهم أصولها من " الوضعانيه كمذهب ناجز مقفل"، بنظر ع. العروي، إلا أن كل من يولع بالعلم التطبيقي، ويدعو إلى تطويع قوى الطبيعة ويُعّرف الإنسان بأنه مخلوق صانع لا بـد، يتابع العروي، أن ينحاز يـوماً إلـى الماركسيه بخطـى حثيثة أو متثاقلـه. (20، 173).
وهكذا يخلص العروي إلى أن س. موسى "مرّ، بسبب ولعه المحموم بالتصنيع، من عباده سبنسر إلى تأليه ماركس خلال مشوار فكري طال ثلاثين سنة، وصفه بدقه ولغرض تعليمي في كتابه الممتاز تربية سلامة موسى" (20، 173). لست بصدد التحاور مع ما ذهب إليه العروي بشأن " التحول الطبيعي" الحتمي الذي طرأ على ما يمكن أن يسمى ايديولوجيه س. موسى، أعني التحول أو الانعطاف إلى الماركسية، ذلك لأن هذا الموضوع لا يهمنا في هذا الجزء من دراسة العلمانية. لكن ما أود قوله، وبعبارة واحدة لا أكثر، هو أن هذا "الانعطاف الطبيعي الحتمي" لا يحدث بهذه البساطة. ثمة عوامل عديدة تضافرت، فأدت إلى ذلك.
ولنا أن نتساءل: إذا كانت الكتب والدراسات السالفة الذكر تناولت علمانية س. م على أنحاء مختلفة، فهل ما صدر حديثاً عن مفكرنا عُني بذلك؟ وما مدى هذه العناية؟
في السنوات القليلة الفائته صدر، فيما نعلم، كتابان لم يُعن أي منهما عناية خاصة بموضوعنا، رغم أنهما سلطا قليلاً من الضوء عليه. ويهمنا ما خلص إليه د. مجدي عبد الحافظ، وهو أن س. موسى عد "فصل الدين عن الدولة، إلى جانب التحرر من التقاليد والغيبيات والإقبال على العلم التجريبي، وقهر الطبيعة شروطاً أساسية لقيام النهضة. ورأى أن الخروج من أسر الأديان وقدسيتها هو الشرط الأساسي لكي يتحرر العقل مما أثقله قروناً طويلة، وعطل كفاياته في البحث بحرية بعيداً عن تلك القيود التي تصنعها الأديان" (7، 158-159).
وينتهي د. عبد الحافظ إلى أن س. موسى يؤكد أن " خطوة العلمانية أساس لكل ما جاء بعدها من نزعات إنسانية حررت الضمير الإنساني، كالاشتراكية...، وكمذهب داروين..، وكل العلوم العلمية والاجتماعية والخلقية فيما بعد" (7، 159).
لم يُعن د. عبد الحافظ بموضوعنا أكثر من ذلك. ويبدو أنه لم يجد بداً من أن يتناولـه في سياق المهمة التي ندب نفسه إليها، أعني " سلامه موسى بين النهضة والتطور". أمّا الكتاب الثاني، فهو "سلامة موسى من رواد الفكر العلمي العربي المعاصر"، تأليف د. أيوب أبو ديه. وهذا الكتاب هو آخر من صدر عن مفكرنا حتى الآن، ويمثل جزءاً من الرسالة التي أعدها الباحث لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة.
إن القارئ المعني بعلمانية س. موسى يلحظ أن الباحث لم يُعن، مباشرة، بهذا الموضوع. لقد أفرد قليلاً من الصفحات للمواضيع الآتية:
نقد الدين
فصل العلم عن الدين أم التوفيق بينهما
الحرية الدينية
وفي أثناء تناولها، وأيضاً تناول مواضيع أخرى، سعى الباحث إلى إضاءة علمانية س. موسى على نحو ما. وبالنظر إلى أن الكتاب جزء من رسالة الدكتوراه المخصصة لأثر الفلسفة المادية الإنكليزية في المفكرين العرب، فإن الباحث يولي هذا الأثر اهتمامه في أثناء عرض أراء س. موسى، فيذكر هذا وذاك من الفلاسفة الإنجليز من مثل بيكون ولوك وهوبز، ومدى التشابه بين ما ذهب إليه هؤلاء الفلاسفه وبين أراء مفكرنا، معتقداً في سياق معين، أن س. موسى "رسى على ما أجمع عليه فلاسفة القرن السابع عشر في إنجلترا" (19، 99)، أو بعبارة أخرى للباحث: "إن التراث المادي الإنكليزي في القرن السابع عشر حاضر بقوة في وجدان مفكرنا" (19، 104). كما يسلط الباحث شيئاً من الضوء على التشابة بين أراء مفكرنا، وكل من شو ويلز.
ورغم تأكيده بأنه "رسى على ما أجمع عليه فلاسفة القرن السابع عشر.."، إلاّ أنه يخلص إلى أن س. موسى تجاوز "نظره الفكر الإنجليزي في القرن السابع عشر، في مرحلة ما.." (19، 102). وعند نظر الباحث في فصل العلم عن الدين..، يذهب إلى أن ملامح ذلك بدأت تظهر عام 1930. وفي اعتقاده أن هذا الفصل إنما هو " سمة بارزة للفكر الإنجليزي في القرن السابع عشر" (19، 105).
إن ما يعنينا هو أن الباحث عُني بموضوعنا على نحو ما، فأفرد لـه بضع صفحات في ثنايا الكتاب.
وقـد ذهـب إلـى أن علمـانيتـه "لا مسـاومـه عليها"، "ولا توفيقيه فيها" (19، 109)، مؤكداً إن لم يساوم في "مسألة فصل الدين عن الدولة، حيث "فصل بينهما فصلاً واضحاً، والتزم بهذا الفصل إلى النهاية"(1) (19، 120). ومما يثير التساؤل، بعد أن يقول إن فصل الدين عن الدولة كان ألهم الأكبر لمفكرنا، وبقي ملازماً له حتى مماته، فضلاً عما تقدم ذكره، هو اعتقاد الباحث أن علمانيته "كانت مبطنة في كثير من الأحوال" (19، 111).
لا أود أن أناقش الباحث في هذا التناقض الذي وقع فيه، ذلك لأنني لست، هنا، بصدد ذلك. وعروض الكتب والدراسات السالفة الذكر لا تهدف إلى التقويم والتحليل. أنها مجرد إضاءة لما له صلة بموضوعنا، وليس أكثر من ذلك.
والآن دعونا نتعرف إلى ما ورد في كتاب د. رؤوف سلامة موسى "سلامة موسى.. أبي"، آخذين بعين الاعتبار أنه ابنه، الأمر الذي يعني أنه قد لا يكون محايداً فيما يتصل بموضوعنا و "يضطر" إلى إخفاء مواقف معينة اتخذها والده أو أراء محدده تبناها مفكرنا. وقد يكون ثمة ما هو مسكوت عنه.
إن القارئ المتمعن والمنصف والملم بكتابات مفكرنا سيخلص في أثناء قراءة الكتاب السالف الذكر، ولا سيما عند الانتهاء من التعرف إلى مضمونه، إلى أن د. رؤوف تعامل مع والده بصراحة وموضوعية. وقد أوضح في عدد من صفحات الكتاب أراء تبناها والده في الدين، ومواقف اتخذها إزاء ما له صلة بذلك، ولا سيما جماعة الأخوان المسلمين، وجماعة شباب محمد.
ومما يهمنا لفت الانتباه إليه هو الدرس الذي تعلمه مفكرنا من سلوك شبلي شميّل الذي كان س. موسى "كبير الحب لـه" (8، 38). يقول د. رؤوف إن "راديكاليه(1) شميل، وعنفه، وجرأته بل تهكمه ووقاحته أحياناً على ما كان يعد "غيبيات" قد علمت سلامة الحرص، وخفوت النبره، والتدرج في المصارحة، والتسامح في المناقشة" (8، 39)، الأمر الذي يعني أنه لم يكن، في بعض الحالات، قادراً على الإدلاء بدلوه، كما يحلو لـه. وبالنظر إلى أن س. موسى كان يظن أن فرح انطون " مصادم وعنيف"، فقد ظل مفكرنا " يتوقى طول حياته غلطه فرح بالتعرض للإسلام" (8، 42).
أكثر من ذلك، فقد تصدى س. موسى لمقال نشره هاري جونستون عن الإسلام في مجلة "النيوستسمان" عام 1920. ومما ورد في المقال أن الأزهر اضطهد أعلام الأمة القبطية. وفي رد مفكرنا على المقال المشار إليه ذكر أن الإسلام ليس هو الذي "يضطهد حرية الفكر، وإنما هي السلطات البريطانية". وزاد قائلاً أن الإسلام لم يعرقل "التقدم مثلمـا عرقلتـه الكنيسة الرومانيـة الكـاثوليكية" (8، 74-75). ومما كتبه في أحد أعداد المجلـة الجديـدة الشهـرية أن " الإسـلام ديـن بلادي، وواجبي أن أدافع عنه أمام الأجنبي. وهـذا ما فعلتـه في كل ظرف" (8، 111). ويذكر، هنا، بعضاً مما ورد في رده على جونستون، قائلاً " مع أني قبطي، أعيش بين مسلمين، لا أجد أن الأسلام يؤذي غيره، بل هو يعمل للتسامح والاخاء. وإنما فعلت ذلك [يعني الرد على جونستون] لأن ألسب في الأسلام هو سب لبلادي" (8، 111).
هل ما قام به س. موسى كان نابعاً من تدينه أم أن دفاعه لا يمت بصلة إلى ذلك؟
يؤكد د. لويس عوض أن سلامة موسى كان "صريحاً في زندقته"، وزندقته "من منطلق مادي". وكان يضع "جميع أديان التوحيد في سلة واحدة". " وكان عاجزاً عجزاً تاماً عن الميتافيزيقا بسبب تكوينه العلمي" (8، 121).
لئن صح ما ذهب إليه د. لويس، تلميذ مفكرنا، وأحد مريديه، فإن ثمة أسئلة يتعين طرحها بشأن الدفاع المذكور، آخذين بعين الحسبان أن ظائفة من الكتاب من مثـل لويس شيخـو ومحـب الـدين الخطـيب ومصطفى صادق الرافـي وغيره، كانوا يرون أنه " كافر وشيوعي ونصراني وإباحي، مدسوس على الإسلام ألخ" (8، 111)، كما يقول س. موسى نفسه. وسأحاول الإجابه عنها عند تناول الدين في نظر س. موسى، وأيضاً علمانيته.
ويختم د. رؤوف كتابه بفصل عنونه "سلاميات" منشورة وغيره منشورة". ويتضمن هذا الفصل، فيما يتضمن، آراء وأقوالاً تبين مكانة الدين في نفس مفكرنا. وبالنظر إلى أن د. رؤوف لم يحدد ما هو منشور منها، فإن القارئ لا يستطيع التمييز بين المنشور وغير المنشور، ولا يستطيع أيضاً أن يسأل: هل ما لم ينشره بخصوص الدين أكثر صراحة وجرأة أم لا؟
ومن هذه "السلاميات" اقتبس طائفة مما إحتوته:
- إن الأديان قد تفرقنا، ولكن الوطنية تجمعنا.
- يجب ألا تفرض علينا التزامات وقوانين دينية، وإنما وطنية مصرية.
- يجب أن يكون لكلمة الديمقراطية معنى ديني في نفوسنا.
- العقيدة هي انتحار العقل.
- الديانة البشرية هي الديانة العصرية الوحيدة التي نؤمن بها، ونحن لا نحس أننا مكلفون هذا الإيمان كما لو كان واجباً.
- العقيدة تعتمد على العاطفة، أما العلم فيعتمد على البنية.
- عندما يستحكم الضيق، ويغشى النفس، كرب الحرمان والعجز، ينطلق الذهن في إسراف نحو الإيمان بالقوة المطلقة التي تعالج هذا اليأس.
- موضوع الدين هو الحلال والحرام، وموضوع السياسة أو الاجتماع هو الخطأ والصواب.
- الدين يجب أن يكون للتوفيق لا للتفريق.
- أعجبتني كلمة قالها الوطني الإيطالي ماتزيني: ليس هناك انتصار للروح البشري، أو خطوة ارتقائية للمجتمع البشري، إلا ومرجعها عقيدة دينية راسخة.
- إن بؤرة إيماني هي الإنسانية، بما تحوي من فلاسفة وأنبياء وأدباء...
- لكل منا، خصوصاً للفيلسوف، ديانته، التي لا يشاركه فيها آخر.
- إن ديانتنا، بل فلسفتنا، تتكون أولاً، ثم تتجوهر. وجوهر الدين هو الحب.
- إني أومن بالمسيحية والإسلام واليهودية، وأحب المسيح، وأعجب بمحمد، واستعين بموسى. وأتأمل بولس. وأهفو إلى بوذا. وأحس أن كل هؤلاء أقربائي في الروح.
- الحب هو دين العالم.
- الدين رأي خاص، ولا يمكن أن يكون عاماً.
- التفكير المادي حر متطور، أما التفكير الغيبي فمقيد جامد. ونحن نتحرر بالأول، ونتقيد بالثاني.
- علم بلا دين هو القنبلة الذرية. أو هو بقاء الأصلح... ولكن العلم مع الدين هو السعادة البشرية...
- عندما نتأمل الأنبياء، بل كذلك الفلاسفة والأدباء، نجد أن كل اهتمامهم كان منصرفاً إلى تغيير المجتمع، بوضع القيم البشرية مكان القيم الاجتماعية.
- في الاتصال بالطبيعة إحساس ديني كبير. فهو يجعلك تحس بالزهر والشجر والطير والفراش.
يتضح، مما سبق، أن س. موسى، فيما ذهب إليه، ليس مؤمناً بدين معين، ومن المؤكد أنه علماني، رغم عدم استعماله هذا النعت لاتجاهه. زد على ذلك أن آراءه وأقواله ليس منسجماً بعضها مع بعض تمام الانسجام. وإذا ما اكتفيت بهذه الطائفة، فإنني أخلص إلى أنه لم يتوصل إلى منظومة فكرية أو نسق يكون الدين جوهره، والعلمانية مبتغاة. صحيح أنه ذكر في مؤلفاته ومقالاته وأحاديثه ومحاضراته الدين أحياناً، ودعا إلى العلمانية، إلاّ أنه، كما يتراءى لي، لم يتمكن من بناء نسق أو منظومة. وربما يفسر هذا العجز بأنه لم يكن مؤهلاً من الناحية الفلسفية، أولاً، ولم يرد أن يصطدم الرأي العام، آخذاً العبر والدروس من غيره ولا سيما ش. شميّل، وف. انطون، ثانياً.
لن نستطرد، ذلك لأننا تعرفنا إلى القليل مما ذهب إليه مفكرنا. وثمة ما سنسلط، لاحقاً، الضوء عليه، وعندئذ ستتضح الصورة، صورة الدين في نظره، وعلمانيته كذلك.

طفولته وانتماؤه لأقلية:
عاش س. موسى طفولته في مناخ ديني. وثمة وقائع عديدة تسلط الضوء على ذلك، في البيت، وفي الكُتّاب. ومن هذه الوقائع المهمة، على سبيل المثال لا الحصر، أن "الحياة الدينية"، في العلاقات القبطية، كانت "أبرز من الحياة الاجتماعية أو المدنية" (33، 20). ويلفت الانتباه إلى أن الأقباط بقوا في حالة جمود وغفله إلى أن بدأت البروتستانيه بالانتشار. ورغم ذلك، فإن كثيراً منهم يأسفون، برأيه، على هذا الانتشار، الأمر الذي يعني أنهم ظلوا يراوحون مكانهم. ويذكر س. موسى أن أمة وأخواته المتزوجات "التزمن البرقع إلى حوالي سنة 1907 أو 1908" (33، 21). والواقع أن البرقع كان منتشراً أيما انتشار بين المسلمات والمسيحيات على حد سواء. لذلك قال إن المرأة، على العموم، كانت " تعيش في ظلام الحجاب لا تجالس الضيوف من الرجال" (33، 21). ويسلط س. موسى مزيداً من الضوء على أمة، فيقول إنها كانت امرأة متدنية "تعنى بالصلاة والدعاء وقت مرضي أيام الطفولة أكثر مما تعنى باستشارة الطبيب" ( 33، 25). ويتحدث عن نفسه، في تلك الأثناء، قائلاً إنه قضى طفولته، وهو في ملابس سوداء، يحمل "عبئاً من التعاويذ"، بل بقيت في أذنه علامة الخرم الذي علق به قرط إيهاماً بأنه ليس غلاماً "حتى يتقي بذلك العين" (33، 25).
وعلى الرغم من هذه الطفولة التي كانت محاطة بهذا الواقع الديني والعام في آن، إلا أن س. موسى لم يتأثر بها، بحيث تجعله متديناً على نحو من الإنحاء. لقد أصبح منحى تفكيره مغايراً لما كان متوقعاً في ضوء هذه الطفولة، ولا سيما إذا أخذنا بعين الحسبان، أن السنوات الأولى من حياة الإنسان تعد حاسمة في تشكيل شخصيته. لقد تمكن من التحرر مما هو ديني، وغداً داعياً إلى العلمانية.
إن مما لا شك فيه أن الفضل، في ذلك، يعود إلى مجموعة من المؤثرات في تكوينه، الداخلية والخارجية على حد سواء. وفي اعتقادي أن إنتماءه للأقباط أدى دوراً معيناً في تحرره السالف الذكر.
يقول مفكرنا " إني حين أجد مؤلفاً يبغض التعصب الديني، ويكافح الغيبيات، ويدعو إلى مذهب العقليين، ويقول بضرورة الاشتراكية، أسأل: هل هو فرد في طائفة من طوائف الاقليات تعاني ضغطاً اقتصادياً أو اجتماعياً بحيث يحب هذه المبادئ وينقلها إلى الوجدان الفني؟ أليست عله ذلك أنه قد أحس أن الغيبيات تفصل بين البشر، وأنه لذلك بشري العقيدة، اشتراكي المذهب؟ (34، 255).
إن الانطباع الذي يخرج به القارئ هو أن ما قاله س. موسى بشأن مؤلف كهذا يصدق عليه تمام الصدق، بل ربما يصدق على كل مؤلف يعيش ظروفاً مماثلة. وكأني به يطالب كل مؤلف بل كل شخص يعيش ظروفاً كهذه أن يكون "بشري العقيدة"، و "اشتراكي المذهب"، ذلك لأن "البشرية" لا تميز بين أكثرية وأقلية، وأيضاً لأن "الاشتراكية" تنشد العدل بين المواطنين دون تمييز بين هذا وذاك منهم.
إن ما تقدم هو ما تبناه سلامة موسى شخصياً، وهو ما دعا إليه، بدون كلل أو ملل، طوال حياته الواعية.

مؤثرات في تكوينه الفكري:
في سنة 1903 كان س. موسى تلميذاً، عمره نحو 15 أو 16 سنة. وفي ذلك الوقت شرع يقرأ الجرائد اليومية، ويشتري مجلتي "المتقطف" التي كان يحررها د. يعقوب صروف، و"الجامعة" التي كان يصدرها فرح انطون، وأيضاً عُني بالكتب. وكانت نظرية التطور، التي كان يسميها ي. صروف نظرية النشوء والارتقاء، بؤره اهتمامة الذهني. وإذ كان الإيمان بهذه النظرية "نوعاً من التفريج والانتقام"، فقد وجد مفكرنا نفسه "داعية متحمساً لهذه النظرية في البيت والمدرسة وفي كل مكان آخر" (33، 52). وقد توسع فيها، مما ساقه إلى التعرف إلى شبلي شميلّ، الذي كان " بجرأته وذكائه شخصية فذه لها قوة الإيحاء، والتوجيه" في نفسه (33، 52).
أما فرح انطون، فقد نقل أدب الثورة والتمرد، أدب العقل الذي يحس، والقلب الذي يعقل. وكانت مجلته "الجامعة" "تنير عقولنا وتشير إلى مبادئ ومناهج رتبها أدباء فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر" (33، 55). ويحدد س. موسى أثر فرح انطون في نفسه، قائلاً " إني أكبرت الأدب الأوربي إكباراً عظيماً" (33، 56)، ومعتقداً أن فقد ف. انطون كان خسارة فادحه، واصفاً إياه بأنه كان يؤمن بالإنسان. والأهم من ذلك، برأيي، أنه كان يكره "الأساطير الغيبية بل يشمئز منها" (33، 58).
أمّا الشخص الثالث، إضافة إلى صروف وشميل، الذي ترك أثراً في توجيهه النفسي الوطني، فهو أحمد لطفي السيد. ومن المؤكد أن دفاع أ.ل. السيد عن أن مصر يجب أن تكون للمصريين وحسب، أي دون الأتراك ودون الإنجليز، هو الذي أدى إلى إعجاب مفكرنا بالسيد. أن الوطنية المصرية المجردة من العثمانية والاحتلال هي التي جذبت(1) س. موسى إلى السيّد الذي كان لـه فضل عليها. ويجمل مفكرنا رأيه في المؤثرات، فيقول "كان هؤلاء الثلاثة" يعقوب صروف، وفرح انطون، ولطفي السيد، من القوات التي صاغت شخصيتي الثقافية الذهنية. فإن الأول وجهني إلى طريق العلـم، والثاني بسـط لي الآفاق الأوروبية للأدب، والثالث جعل من المستطاع لـي، بوصفي أني غيـر مسلـم، أن أكـون وطنيـاً في مصر"(33، 60).
بيد أن المؤثر الأكبر، إضافة إلى الثلاثة المذكورين آنفاً، كانت فرنسا.
يتحدث عن سفره إلى باريس عام 1908، فيقول إنه وجد مجتمعاً يختلف كلياً عن المجتمع المصري. وقد سبب لـه هذا الاختلاف النوعي، بين المجتمعين، "دهشة منبهة"، بل"صدمة موقظة" (33، 77).
إن ثورته على التقاليد المصرية تعود، باعترافه، إلى تلك السنوات التي قضاها في باريس، وإلى الوجدان الجديد الذي ارتقى إليه. ومما أثر فيه تأثيراً بالغاً، في أثناء أقامته في باريس، وضعيه المرأة، التي كانت حره وصريحة وطلقه، الأمر الذي أدى إلى أن يشعر أن "أفقاً جديداً" انفتح أمامه. أمّا الأثر الآخر، فقد كان للفكر الاشتراكي، الذي استطاع في ضوئه أن يفهم "كثيراً". (33، 82). ورغم ما تقدم، فإنه يعزو ثقافته إلى الإنجليزية أكثر مما إلى الفرنسية.
ويجمل س. موسى أثر فرنسا على وجدانه، فيقول إن الفضل يعود إليها في أنها جعلته "أوربي التفكير والنزعة" (33، 84). وفي إنكلترا، التي قضى فيها أربع سنوات، تعرف إلى "جمعية العقليين" المناوئة للفكر الديني، وإلى الجمعية الفابية(1). وقد تركت هاتان الجمعيتان أثراً كبيراً فيه. يقول عن الجمعية الثانية إنها أحالته من "شرقي متوحش إلى أوربي متمدن"(34، 220). وفضلاً عن أثر فرنسا البالغ، يعترف س. موسى بأن ثقافته "تكاد جميعها تعود إلى الفترة الواقعة بين 1907و 1911" حين كان في لندن. (33، 101). ويعد برناردشو من أكبر المؤثرين في عقليه مفكرنا. وما يعنيني، هنا، هو اعترافه بأن ديانة برناردشو هي ديانته، "وإن عمودها الفقري هو التطور" (33، 109). وأنها بشرية، وتنأى عن الغيبيات.
وثمة "رؤيا" أخرى مما رأى في برناردشو هي "الأيمان بالعلم، بل السلوك العلمي، ولكن مع الدين". (33، 109) ويزيد قائلاً إن العلم بلادين هو "القنبله الذرية، وبقاء الأصلح كما يفهم هذا الأصلح أو يتخيله تجار منشستر ونيويورك. ولكن العلم مع الدين هو السعادة البشريـة والتطـور إلـى السبـرمان" (33، 109). هذا ما قاله عن برناردشو في ذلك الوقت، أي سنة 1947. ولم يكن يستطيع أن يقول عنه كل شيء بصراحة. وفي عام 1957، تجرأ، فأصدر كتاباً عنه. كان ما حال دون كتابته، "الجمود العام في الجمهور" (35، 3). وهـذا الكتـاب وضـع للعقول المفتـوحة، ولـيس "للعقول المقفلة التي تضع التقاليد فـوق التطور، وتستسلم للغيبيات.." (35، 3). وفـي هـذا الكتاب يقـول إن ويلز وشو ملحدان، "وكلاهما يكفر بالأديان ويجد في الاشتراكية البدل العملي للـدين" (35، 99)، لأنها التطبيق العملي للإنسانية. إنها، برأيه، "الديانة العملية التطبيقية، الديانة الإنسانية" (35، 100). وقد تكون الاشتراكية ملحدة أو مؤمنة "إذ لا دخل للإيمان الشخصي في النظام الحكومي الاشتراكي" (35، 100). وهذا الإحساس، برأيه، يجعل الاشتراكي "قانعاً بالتفكير العملـي دون التفكير الغيبي" (35، 100).
يتضح مما تقدم أن شو في هذا الكتاب يختلف عن شو في كتابه "تربية سلامة موسى". ففي هذا الكتاب يتبدى شو، كما هو، وأيضاً يتبدى س. موسى، على حقيقته، إلى حد ما. فهذا الكتاب صدر قبل وفاته بنحو سنة. وفيه يوجه مفكرنا النقد لشو، ولا سيما لاشتراكيته، ويظهر ميلاً واضحاً لاشتراكية ماركس، وانعطافاً مؤكداً نحوها. وإذا كان قال بأهمية الدين بالنسبة للعلم، فإنه في كتابه هذا يؤكد أن رجل العلم يجب أن يكون فيلسوفاً. وإلاّ فهو خطر" (35، 182). إن ما ذهب إليه، هنا، يختلف عما ذهب إليه في "تربية سلامة موسى". فإذا كان الدين ضرورياً للعلم، فإن الفلسفة أضحت في كتابة "برناردشو" لازمة لرجل العلم. كيف يُفسر هذا الاختلاف؟ هل يمكن أن يفسر بأن مفكرنا لم يكن يميّز بين الفلسفة والدين؟ في اعتقادي أنه كان يميز بينهما، ويدرك أنهما صورتان مختلفتان من صور الوعي الاجتماعي. وأذهب إلى أنه كان يقصد، أحياناً، إلى عدم التمييز. ففي معرض كلامه على الوجوديه يذهب مفكرنا إلى أنها ليست فلسفه، إنما مذهب. ويعلل ذلك بأن "الفلسفة تمتاز بأنها يمكن البرهنه على صحة قواعدها" (34، 277) أما الوجودية فتلقى "بقواعدها كما لو كانت عقائد دينية" (34، 277).
يتضح، مما سبق، أن سلامة موسى يميز بين الفلسفة والدين على نحو من الإنحاء. ومهما قيل في هذا التمييز، فإنه يدل على أنه كان يعي تمام الوعي أنهما صورتان مختلفان أيما اختلاف من صور الوعي الاجتماعي، الأمر الذي يعني تعذر وضع علامة مساواة بينهما.
يعود س. موسى إلى الكلام على إلحاد شو، فيقول إنه كان يؤمن بنهائية الموت، ولا يؤمن بنعيم ولا جحيم ولا حساب في عالم آخر. ويسأل عن موقفه من "الله"، فيجيب أن شو لا يذكر "الله". ويرى مفكرنا أن موقفه هو الموقف نفسه الذي اتخذه سبينوزا، وهو أن الله كامن في المادة. ولا مفر من الاعتراف، برأيه، من أنه "موقف مادي" (35، 188\)، أو بعبارة أخرى: ليس هناك إله خالق منفصل عن المادة" (35، 188). إنه "كائن في الإنسان" (34، 223). والواقع أن مفكرنا يتبنى، على العموم، هذا الموقف.
إن ما يفهمه س. موسى من الدين، كما استخلصه واستنتجه من شو، هو اليقظة إلى الوعي الكوني، أي ما هو الموقف من الكون والدنيا والبشر. والمهم هو ما يدلي به بشأن من يحسبهم زعماء الدين، إذ يقول إنهم "موسى، والمسيح، ومحمد، وعمر وأبي بكر، وغاندي، وتولستوي، وشفيتزر، وبرناردشو، وسقراط، وابن رشد، ولنكولن، وتوم بين، وكارل ماركس، ولينين، وباستر، وجميع الفلاسفة والأدباء والشعراء المفكرين والعلميين الذين خدموا الإنسان في زيادة حريته وإنقاذه من رق العمل أو رق الأفكار أو من الأمراض أو من مظالم الاستبـداد والاستغلال"(35، 190).
إذن المعيار الذي يستند إليه س. موسى فيما يتصل بزعماء الدين، ليس دينياً، بل هو معيار بشري عام لا يميز، من خلاله، بين الأنبياء من جهة، والآخرين من علماء وفلاسفة ومفكرين وأدباء، من جهة أخرى، بل لا يميز بين ملحد ومؤمن.
ومن المؤكد أن أحداً من الدارسين لن يتمكن من تفسير رأي س. موسى في الدين، ودعوته إلى العلمانية، إلاّ إذا أفاد من كلامه على المؤثرات الأعجمية التي أسهمت في تشكيل ما يسمى إيديولوجية س. موسى. ثمة مؤثران كبيران جداً أسهما إسهاماً ملحوظاً في إيديولوجيته، هما الاشتراكية ونظرية التطور أو نظرية النشوء والارتقاء كما عرفت لحين من الزمان. وهذان المؤثران(1) هما بذرتان قديمتان استقرتا في عقله، كما يؤكد س. موسى. يقول إن "ثقافتي كلها قائمة على بذرة قديمة زرعتها، أو الظروف زرعتها في ذهني حوالي سنة 1908 حين كنت في لندن اكتشف عالماً جديداً هو عالم الاشتراكية". (22، 169).
إذن البذرة الأولى من بذور ثقافته أو المكوّن الأول من مكّونات ثقافته، يتمثل في الاشتراكية. إنها، برأيه، "البذرة الأصلية". وقد فعلت، وما تزال تفعل، في تطوره الذهني. (22، 179).
ويستطـرد قائلاً إن الاشتراكية في ذاتها هي تجديد اجتماعي. إنهـا تجعـل الإنسان ينظـر "بعين الانتقاد (أي الهدم) للسياسة والأخـلاق والأديـان والأدب.." (22، 170). وهذه المهمة الأولى. أما المهمة الثانية، فهي البناء. فإنسان كهذا، كما يضطر إلى أداء المهمة الأولى، "يضطر في الوقت نفسه إلى النظر بعين التجديد (أي البناء) في هذه الشئون كلها" (22، 170).
وقد اضطره "النظر الاقتصادي للتاريخ" الذي يمثل، برأيه الناحية الثقافية للاشتراكية، إلى درس التطور الاجتماعي الذي ينتهي بطبيعته إلى الاشتراكية، والتطور العضوي الذي سيسير أو يجب أن يسير نحو ظهور السبرمان.
من الواضح أهمية هذا النظر بالنسبة لمفكرنا، إذ لولاه، لما انغمس، كما يقول، انغماساً عميقاً في درس نظرية التطور. ويدلل على ذلك بأنه وضع كتابه "نظرية التطور واصل الإنسان" دون أن يستعين بمراجع إلاّ نادراً.
أما البذرة الثانية أو المفتاح الثاني، أو المكوّن الثاني، فيتمثل في نظرية التطور أو نظرية الرقي، كما يعدها. يقول س. موسى إن الاشتراكية والتطور هما "المفتاحان أو البذرتان لثقافتي"، ويمكنه أن يرد كل ما ينزع إليه من "تجديد في العمران أو الأدب أو الدين إليهما" (22، 173).
ويتراءى لي أن لنظرية التطور أهمية تفوق كثيراً أهمية الاشتراكية، من ناحية تأثيرها في ثقافته عامة، وموقفة من الدين، خاصة. وهذا الذي أذهب إليه يمكن التدليل عليه بما أكده س. موسى نفسه. فقد قال إن من " يعرف هذه النظرية، كما شرحها داروين، لا يمكنه أن يقف عندها أو يقنع بها، بل لا بد له من أن يغير بها إغارات موفقه في الدين والأخلاق والعمران" (22، 172). وهذا ما فعله على حد قوله. لن استطرد في الكلام على أهمية هذه النظرية بالنسبة لمفكرنا، مؤكداً أنها لم تكن معرفة علمية وحسب، بل كانت أيضاً تكسب الإنسان "مزاجاً واتجاهاً ومذهباً اجتماعياً، كما هي "منهج فلسفي للتفكير" (23، 8-9) " إنها لم تعد، عند ه، مجرد نظرية، بل "صارت نزعة تجعلني أطلب التجديد والرقي. (22، 173).
ومن الأهمية بمكان القول، فضلاً عما تقدم، إن س. موسى كان يعي دلاله هذه النظرية بالنسبة للفهم المادي للحياة. لقد استبدلت هذه النظرية، برأيه، "النظر المادي بالنظر الغيبي لنشأة الأحياء على أرضنا"(1) (23، 11). وبفضلها أخذ "النظر العقلي العلمي المادي"، عند الجمهور المصري، "مكان النظر الغيبي الأسطوري الخرافي" (23، 12)، وتحقق للإنسان "استقلال العقل والروح" (23، 12).
ولا يساور س. موسى شك في أن من يستوعب نظرية التطور، وتستحيل في نفسه " مزاجاً ومذهباً" كذلك، إنما "يشعر بتحرره من أغلال التقاليد" (23، 9)، "ويسمو على الاختلافات الدينية التي مزقت أوربا في القرون الماضية، ولا تزال تمزق أقطاراً عديدة في آسيا وأفريقيا الآن" (23، 9). ويعلل مفكرنا ذلك بأن إنساناً كهذا، إنما "يرى أن فكرة "الإخاء"، التي دعت إليها الأديان، تجد التعليل المادي في نظرية التطور بالمعنى الأوسع والمغزى الأعم". (23، 9).


مقدمة السبرمان:
يلحظ القارئ أن س. موسى عُني بالعلمانية، منذ البدء، أي بدء الكتابة. ففي أول إصدار له "مقدمة السبرمان" سلط قليلاً جداً من الضوء عليها، وذلك في معرض كلامه على النزعات الفكرية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، مؤكداً أن حرية التفكير هي الأصل في هذه النزعات. وعنـدما يسأل عن هذه النزعات، يجيب بما يلي: "ربما كـان أعـم هـذه النزعات هي النزعة العلمانية، بإطلاق المدارس والحكومات من القيود الدينية" (24، 5). ويشرح ذلك قليلاً، فيقول إن الناس أخذوا يميزون بين الدين والعلم. " واستقر رأيهم على إن ما يقوله العلم أثبت مما يقوله الدين.." (24، 5). ويزيد قائلاً إن الدول، يعني الدول الأوروبية، أقرت "التعليم العلماني في المدارس، وصار التلاميذ يتعلمون الجيولوجية بدلاً من "سفر ا لتكوين"، وانفصلت بعض الحكومات عن الدين وصارت هي أيضاً علمانية" (24، 5). ونتج عن ذلك أن "العقول كما تجرأت على الدين، ورفضت الإيمان الأعمى به، تجرأت أيضاً عن سائر الأمور الاجتماعية..." (24، 65). وذهبت بعيداً في تفكيرها الموضوعي الحر، حيث تحررت من التقاليد، وصارت لا تحسب "حساباً لسلطة إلهيه تدبر هذه الأشياء" (24، 6).
كما نتج عن التفكير الحر انتشار روح التجربة. ومع أنه واضح أن النزعة التي تحدث عنها هي نزعة أوربية، إلاّ أنه يؤكدها. ومن الجدير بالذكر أنه يُعظّم، بصورة لافتة للنظر، من شأنها، إذ يعدها علة نزعات أخرى منها: الاشتراكية، ومذهب داروين الذي نتجت عنه نظرية التطور، وأيضاً علم اليوجينه.
وثمة أثر آخر للروح العلمانية في الأخلاق، بمعنى أن النظر إليها وتقويمها أصبحا بقيمتها الاجتماعية.
إن القارئ المتمعن لهذا العرض لا يخامره أدنى شك في أن س. موسى معجب أيما إعجاب بالعلمانية، ذلك لأنه يقدمها بروح إيجابية جداً. هذا فضلاً عن أنه استهل كتيبه بهذا الإعجاب، مع أن عنوانه يحتم البدء بالتمهيد لـه، أي "مقدمة السبرمان".
لم يتردد مفكرنا في طرح ما يريده. وما أراده هو أن يبقى الدين محصوراً في دائرة ضيقة للغاية، هي "دائرة علاقة الإنسان بالكون" لا أكثر، لأنه إذا تجاوزها، "وأخذ يقرر أصول المعاملة بين الناس..." فإنه عندئذ يقرر الموت لكل من يؤمن به" (24، 23).
والسؤال الذي يخطر بالبال هو: أي دين يعني؟
إنه يعني الإسلام أولاً، ذلك لأن المسيحية، برأيه، ربما كانت أقل الأديان من ناحية العناية بالمعاملات، مؤكداً أنها لا تملك "شريعة" خاصة بذلك. إن ما ذهبت إليه هو مجرد افتراض، لكنه افتراض قوي. وفي الحق إنه كان يحرص كل الحرص على غض النظر عن الإسلام في أغلب الحالات التي كانت تستدعي الكلام عليه.
إن الدين إذا اصبح "شريعة التعامل، فإنه عندئذ يصير جزءاً ملتحماً بالحكومة وبالقضاء فيدمغهما بالجمود ويحول دون حرية الفكر ودون تطور الأمة المدني، لأن التطور هو التبدل والتحول، والدين هو غالباً التقاليد ا لتي لا تتبدل ولا تتحول" (30، 28-29).
أعود إلى مقدمة السبرمان، لأقول إنها ذات أهمية استثنائية في أيديولوجية سلامة موسى. فقد باح بالمكتوم في نفسه، واستراح بهذا البوح، في المقدمة، وفي "الاشتراكية" و "نشوء فكرة الله". وللتدليل على الأهمية السالفة الذكر، يقول إنه ألفها عندما كان في لندن في الفترة الواقعة بين 1907 و 1911 لتضم بعض الاختمارات الذهنية. ومن الجدير بالذكر أنه، بعد عقود، لم يتغير عمّا قاله في المقدمة، بل إن "قصارى ما حدث لي هو توسع وتعمق، أي نضج" (10، 287). ويمضي مفكرنا إلى القول إنه عندمـا يعـود إليهـا، يجـد فيهـا "جميـع الجـراثيم الفكـرية" التي لا تزال تشغل ذهنه، رغم أنها "تمتاز بفجاجة في الأسلوب مع فجور في التفكير" (10، 102).

الدين: عوامل (محددات) وإرتباطات:
الفلسفة والدين:
على الرغم من أن س. موسى لم يتخصص في الفلسفة، وأيضاً لم تكن شغله الشاغل، إلاّ أنه أولاها اهتماماً معيناً، على غرار العلم والأدب اللذين أولاهما إهتمامه أيضاً. ومن الجدير بالذكر أنه لم يعن بأي من هذه الصور عناية خاصة، ذلك لأنه كان ينصح الإنسان بقوله: " لا تكن أديباً فقط أو عالماً فقط أو فيلسوفاً فقط بل كن الثلاثة" (40، 16-17). وفي ضوء ذلك، لا يفهم من قوله إن أكبر لذاته هي "اللذة الفلسفية"، وإن الرجل المتمدن يعيش "العيشة الفلسفية"، أن عنايته بالفلسفة كانت لها الغلبة على عنايته بالعلم والأدب.
وثمة أقوال أخرى، وآراء عديدة، تدل على أن س. موسى قدّر(1) الفلسفة أيمّا تقدير، وأعلى من شأنها وقيمتها في حياة الإنسان، ولا سيما إذا كان رجل علم. أمّا الدين، فإنه، بإعترافه، صار يُعنى به، وعمره نحو الأربعين. ويدلل على هذا الاهتمام، بأنه شرع يقرأ الكتب المقدسة جميعها بعناية، وأشغل نفسه بالمشكلات الدينية الهندوكية. وقد وجد فتنه في أنبياء التوارة، وأسلوبها، كما وجد قوة جاذبة كبيرة جداً في شخصية المسيح. (33، 252).
والحق أن القارئ لكتابات مفكرنا يحار فيما يتصل بكلامه على الفلسفة والدين، ولا يتبين موقفه حيالهما على وجه الدقة. وأسارع لأقول أن هذا الخلط ربما كان مقصوداً، ذلك لأن س. موسى، كما أظن، كان يعي تمام الوعي، أن الفلسفة صورة من صور الوعي الاجتماعي، وهي مختلفة تمام الاختلاف عن الدين، ولا يعقل أنهما صورتان متساويتان أو متشابهتان على الأقل.
ويجد القارئ أقوالاً عديدة لسلامة موسى يمكن أن تفهم على أنه لا يميز بين الفلسفة والدين. ومن أهم أقواله، في هذا الصدد، أن "الفلسفة هي الدين"، وأن "قضية الدين هي قضية الفلسفة"، وأن "مقاييس الدين هي في النهاية مقاييس الفلسفة" (33، 247). ويدلل على ذلك بأن الرجل العصري الذي يدرس الفلسفات والأديان يجد "اختلاطاً يشبه الاندغام" (22، 247). ومع أنه يميز، أحياناً، بين الفلسفة والدين، إلاّ أنه سرعان ما يعود إلى إقصائه.
أذكر واقعة، علىسبيل المثال لا الحصر. يقول س. موسى إن الدين يطالبنا بالتسليم، وإن الفلسفة تطالبنا بالمنطق. ورغم ذلك، فليست هذه الحال " دائمة أو واضحة الحدود" (33، 247). ففي الدين منطق، كما في الفلسفة تسليم، في بعض الأحوال، برأيه.
ويواصل س. موسى نهجه القائم على عدم التمييز، أحياناً، فيقول إنه التفت، عندما شرع يدرس السيكولوجيا إلى ناحية من الدين، لم يكن قد انتبه إليها في السابق، وهي "سلام النفس". ولا شك عنده في أن "المتدين يحس سلاماً، "ويجد ابتهاجاً يحرم منهما غير المتدين" (33، 256). ويخلص إلى أنه ليس غريباً، في ضوء ما تقدم، أن تكون " للدين، أي للفلسفة، قيمة سيكولوجيه عظمى" (33، 257).
إذن لا فرق بين الدين والفلسفة. والحق أن المتدين لا يحس بسلام النفس، لأنه مؤمن بالله، على سبيل الحصر. إنه، أي المتدين، "يثق بالكون"، وكأنه يحس أنه "لن يخونه، حتى حين يصطدم بالمصاعب. أو قل إنه يعيش في وسط أوسع،كما أن آفاقه تمتد إلى آماد أبعد" (33، 56-257).
إن ما تقدم يدل، بصورة قطعية، على أن المتدين الذي يقصده مفكرنا، ليس ذاك الشخص الذي تواضع عليه الناس المتدينون، بل والناس غير المتدينين كذلك. إنه متدين غير مألوف، وغير شائع أيضاً.
والواقع أن س. موسى يؤكد أن القارئ لا بد أن يسأل: هل هو محق في الكلام على الفلسفة والدين باعتبارهما صورة واحده من صور الوعي الاجتماعي؟
لا يجيب مفكرنا بعقله عن هذا السؤال، بل يجيب بإحساسه. ومن المؤكد أن الإحساس ليس مؤهلاً لذلك. لنتعرف إلى جوابه القائم على "الإحساس".
يقول س. موسى إنني إذا شئت التمييز بين الفلسفة والدين، فإني أقول إن "الإحساس(1) هو طرب الحـب، حب الطبيعة وحب الحيوان وحب الإنسان، بل حب الحياة والكون" (33، 257).
لا يفوت أحداً أن يلحظ أن حباً كهذا هو حب يخلو من الله. لقد ذكر ضروباً شتى من الحب، وأغفل عن ذكر حب الله. هل يعد حب كهذا "إحساساً دينياً؟. في اعتقادي، وفي اعتقاد المتدينين، كما أظن، أنه يمكن أن يكون أحساساً دينياً، لو أن ضرباً من ضروب الحب المذكورة، كان حب الله.
هذا فيما يتصل بما يسميه "الإحساس الديني".
والآن لنسأل عن الفلسفة، وما يميزها عن الدين؟ كما تحدث س. موسى عن الإحساس الديني، تحدث عما يسميه الإحساس الفلسفي، قائلاً إنه "تأمـل الفكر" (33، 257).
ورغم هذا التمييز بين الإحساسين، وليس بين الدين والفلسفة، فإنهما، في الحقيقة، "يندمغان"، عنده، "وأن كان أحدهما قد يتغلب على الآخر في بعض الظروف" (33، 257).
ويواصل مفكرنا كلامه على الفلسفة والدين في سياق يختلف بعض الشيء، عن السياق السابق.
وحدة الفكر والدين:
يؤكد س. موسى أن الكثير من كفاحه الثقافي، وأحياناً السياسي، قد جرى "بتأمل الفكر، وطرب الدين"، معززاً بذلك وحدة الفكروالدين، ومؤكداً، في الوقت نفسه، أن الكفاح لا يتحقق إلاّ بهذه الوحدة. ويفسر وحدتهما بأن التأمل يطلب السكون، بينما يستفزنا الطرب إلى الحركة. والكفاح لا يتم، إلاّ إذا مزجنا هذا بذاك، أي التأمل بالطرب، أو الفكر بالدين.
أن التأمل وحده يعني الجلوس في برج عاجي، والبعد عن المعركة أو الكفاح. لذلك، ما أن تتبلور، لديه، فكرة بالتأمل حتى يعمه الطرب، فينشط إلى الكفاح. إن التأمل يفضي إلى الأفكار، إنه المنتج لها. أمّا الطرب، فهو الذي يسوق إلى الممارسة. هكذا يتوحد النظر والعمل. ويمضي قدماً في إضاءة طرب الدين، فيقول أن أي نهضة عالمية، كالثورة على المظالم، أو التجديد للمبادئ، أو الدعوة إلى الإخاء والمساواة والحرية، لا تسير إلاّ على الأسلوب الديني. أكثر من ذلك، إنها، برأيه، تتجاوز المنطق إلى الإيمان. مؤكداً، بهذا الصدد، أنها "ملهمة بالروح الديني" (33، 259)، بل " لا تنجح إلاّ به" (33، 259).
يضرب س. موسى ثورة 1919 في مصر مثلاً على ما يذهب إليه. يقول إن هذه الحركة لم تنجح إلاّ بمقدار ما كان فيها من الحماسة والإيمان، أي طرب الدين. وعندما تفشت الأنانية والاستئثار والبغض، أي فقد طرب الدين، صارت تتقهقر. وفي اعتقاده أن الدعوة الوطنية في مصر، الدعوة إلى الحرية والإخاء والمساواة، لن تعود، إلاّ إذا أحدثت، كما كانت تحدث في سنة 1919، "طرباً دينياً يتألف من الحماسة والإيمان والحب والتضحية" (33، 259).
لا نتبين بسهولة ووضوح، في آن، المقصود بطرب الدين. إننا مدعوون إلى التخمين. وقد يختلف القراء والدارسون بشأن ما يعنيه. واضح أن طرب الدين لا يمت بصلة إلى أي دين بعينه. وأزيد قائلاً إنه يخلو تماماً من أي غيبيات. لذلك لا أجد تفسيراً افتراضياً لإلحاحه عليه سوى إرضاء المتدينين لا أكثر. وفي اعتقادي أن المتدين الذي يمعن النظر، ويعمل العقل في هذا الطرب، لن يرضى بفهم كهذا. إذن منْ كان يخاطب مفكرنا بهذا الطرب؟
الجواب عندي: لا أدري.
أعود، مرة أخرى، إلى أن س. موسى لا يفهم الدين، كما هو شائع فهمه. وبوسعي القول إن فهماً كهذا فريد في نوعه، على الأقل في الفكر العربي المعاصر.
بقي أن نتساءل، في ضوء ما سبق، عن فلسفته في الحياة. هل هي مستمدة من الفلسفة / الفكر أو الدين أو هي قائمة على التوفيق بينهما؟
الجواب عنده أنها " مزيج من الفلسفات والأديان" (33، 247).
وإذا كان، فيما سبق، قد حدد فلسفة الحياة التي يعيش بها، فإنه، بعد بضع صفحات، حدد مصادر ديانته أو ضميره الديني. ويبدو أن فلسفته في الحياة أو ضميره الديني سيّان بالنسبة إليه، لا فرق بينهما. إن ديانته، كما يقول، "موضوعية منطقية، لا ذاتية عقيدية فقط" (33، 250)، ذلك لأنها، استندت إلى مجموعة من الأديان السماوية والوضعية، وإلى طائفة من العلوم. إن الإنسان، برأيه، ليس ضرورياً أن يؤمن بدين معين، كي يكون له ضمير ديني، مؤكداً أن "جميع الأديان سواء من حيث أنها تنشد الحياة الطيبة" (33، 254). كما أن جميع الكتب المقدسة سواء عنده. وهو لا يعتمدها وحسب، بل يضيف إليها عشرات من الكتب في مجالي الفلسفة والأدب. لذلك يعزو بعض ديانته إلى كل من أفلاطون، وبرناردشو، وروسو، وتولستوي، ودستويفسكي، وأخناتون. " فقد زودني هؤلاء جميعاً بهرمونات دينية" (33، 255).
أمّا ديانته، من الناحية الغيبية، كما يقول، فإنها " تشبه، بل تطابق ديانة سبينوزا. أي أن المادة والقوة شيء واحد ليس بينهما انفصال. وكذلك الشأن في العقل والجسم" (33، 259). وفي موضع آخر يؤكد أن العلاقة بين القوة والمادة، أو الله والكون، تمثل هاجساً لديه، كما لو كانت وسواساً. ويعتقد س. موسى أنه لم يهتد إلى همزة الوصل بينهما. ويعني بذلك أنه لم يبلغ درجة من الفهم لهذه الصلة يستطيع بها أن يرتفع إلى "التعبير اللغوي عنها" (33، 289).
يغلب على الظن أن مفكرنا لم يرغب في الأدلاء، بصراحة، بدلوه، ذلك لأن القول في هذه الصلة يمكن أن يفضي إلى ما لا يحمد عقباه، آخذين بعين الاعتبار حذره، من جهة، وفلسفته المعادية، بصراحة، للتفكير الغيبي ـ الخرافي، من جهة أخرى. ومن المعلوم أنه لم يكل، ولم يمل، في تصديه للغيبيات والخرافات والتقاليد والعقائد، وفي الدعوة إلى الثقافة العلمية، وإلى السير على "مبادئ المنطق والعقل والعلم" (44، 186).
يذهب بعض الدارسين لفلسفة اسبينوزا إلى أن رأيه في الصلة بين الذهن والجسم يعد "من أوضح المظاهر الإيجابية للروح العلمية في تفكيره00" (44، 98). ولكن لنا أن نتساءل: ما رأيه في هذه الصلة؟ يقول في مقدمة الباب الخامس من كتاب " الأخلاق" "إن الذهن والجسم شيء واحد، ينظر إليه في الحالة الأولى من خلال صفة الفكر، وفي الحالة الثانية من خلال صفة الامتداد. وبناء على ذلك فإن ترتيب الأشياء وتسلسلها يكون واحداً، سواء نظرنا إلى الطبيعة من خلال إحدى الصفتين أو من خلال الأخرى" (نقلاً عن: 44، 99).
ومن خلال ما تقدم، يقول د. فؤاد زكريا إن اسبينوزا "أبدى ميولاً مادية واضحة" (44، 102)، وذلك عندما طبق رأيه العام في الصلة بين الفكر والامتداد على مشكلة الجسم والذهن. أما "الله أو الطبيعة"، كما قال اسبينوزا، فلم يعن بقوله هذا حقيقتين، بل حقيقة واحدة. ويذهب بعض الدراسين إلى أن اسبينوزا عنى بلفظ "الله" ما يسمى اليوم بعالم الواقع، أونسق الطبيعة أو ترابطها الضروري. إن فكرة "الله" لا تخرج عنده عن مجال الطبيعة. لقد جعلها في هوية مع مجموع الطبيعة أو النظام الكلي للأشياء. لذلك رحب بعض العلماء بالله كما يفهمه اسبينوزا. وعلى سبيل المثال لا الحصر قال اينشتين: "إنني أؤمن بإله اسبينوزا" (44، 188).
وجملة القول إن س. موسى طابق بين ديانته وديانة اسبينوزا، لأن فلسفة الأخير تميل إلى المادية، ولو بصورة غير مباشرة، وغير صريحة. وينبغي أن لا نغفل عن أن مفكرنا أعجب إيّما إعجاب بأبيات نظمها محي الدين بن عربي. وهذا الإعجاب مرده إلى أن س. موسى قال أن "ديانتنا أو فلسفتنا تتكون أولاً، ثم تتبلور، ثم تتجوهر" (33، 258)، ويتابع قائلاً إن التجوهر هو الحب. وفي اعتقاده أن الأديان كلها انتهت إلى ذلك، كما أن علم النفس انتهى إلى هذا الموقف أيضاً. ولكن هذا التجوهر للديانة أو الفلسفة، والذي هو الحب عنده، ما هو؟ إنه اتجاه وسلوك. وهو الاستطلاع الدائم للكون، والرغبة النهمة في المعرفة. ثم هو التعاون والتسامح. إنه لواضح أن هذا الفهم للحب بعيد كل البعد عن الفهم المألوف والشائع للدين. إنه يُفقده أي بعد غيبي، ويجعل منه دنيوياً وحسب. وهذا الحب، برأيه، هو ما انتهى إليها الصوفيون المسلمون. ويضرب مثالاً على ذلك بأبيات نظمها ابن عربي، هي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل صوره فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبه طائــف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني
هذه الأبيات ذهبية، برأيه، وحبذا لو تذاع وتعلق في بيوتنا، وخاصة في الشرق العربي الذي "يجب أن تتعانق فيه الأديان الثلاثة عناق الحب" (33، 258). وقد وجد س. موسى أفكاراً إنسانية مماثلة عند المعري. ومع أنه يقول إن ديانته تطابق ديانة سبينوزا، إلاّ أن ما سبق ذكره يدل على أنه، كغيره، انتهى إلى الحب بالمعنى الذي أوضحت من قبل.

الوسط:
يشدد س. موسى كثيراً على أهمية الوسط، مؤكداً أن كل حي يخضع لعاملين هما: عامل الوراثة، وعامل الوسط. وكذلك الحال، برأيه، في الهيئة الاجتماعية. ففي كل هيئة بشرية ثمة تقاليد موروثة في مجالات عديدة. وهذه التقاليد تقوم مقام "ناموس الوراثة".
وعند مراعاة التقاليد، يتعين أن لا يتعارض ذلك مع الوسط، ذلك لأنه هو الأهم، وهو الذي يجب الانطلاق منه. إن احترام التقاليد، بما فيها المتصلة بشئون الدين يجب، برأيه، ألا تبلغ حد التقيد بها، لأن ثمة تطوراً يجري. ونحن إلى جانب احترامنا لأسلافنا، يجب أن "نؤمن بأنفسنا أيضاً" (22، 43)، ذلك لأننا مدعوون إلى الانفعال بالوسط الذي نعيش فيه.
إن التطـور نـاموس عام يشمل كل شيء، بما فيه "الأديان والمذاهب" (22، 59). وفي ضوء استعراض الأديان السماوية والوضعية، يتوصل س. موسى إلى أن "لكل بيئة دينها، يتكيف وفق الوسط الذي ينشأ فيه" (22، 59)، ويخضع، على الدوام، لقانون البقاء للأصلح، فما وافق من الاعتقادات الدينية "البيئة عاش وبقي وما لم يوافق يموت ويندثر" (22، 61).
إذن المحدد للدين هو الوسط، بمعني إنه هو الذي يتقبل هذا الدين أو ذاك، باعتبار أن الدين الأنسب أو الأصلح إنما هو كذلك، لأنه يناسب الوسط أكثر من غيره، مؤكداً في هذا السياق أن "بقاء الأنسب" هو قاموس آخر من قواميس العمران الذي يخضع له الإنسان.
إن مما يعتقده س. موسى أن العقائد الدينية تطورت مع مضي الزمن، إلى أن بلغت ما بلغته الآن. وهي، برأيه، "لم تخالف نواميس العمران من حيث أنها سارت سير النشوء والتطور، ولم يطفر إليها الإنسان طفره واحدة" (22، 47-8).
لم يحدد مفكرنا، فيما سبق، المقصود بالوسط. بيد أن ما عناه، كما يتراءى لي، هو الوسط أو البيئة الاجتماعية أو بعبارة أخرى الرأي العام. ولا ريب في أن الوعي الذي بلغه الرأي العام هو المُحدّد للدين الذي يلقى استحساناً وقبولاً، إذا كان ذلك يتم باختيار حر.
إذن الدين تابع للوسط، والوسط متغير من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. ويترتب على ذلك أو ينبغي أن يؤثر ذلك في طبيعة الدين الذي يسود. فالوسط هو الفاعل، والمقرر، في هذه الحالة.

التفسير الاقتصادي:
عُني س. موسى بما أسماه "التفسير أو النظر الاقتصادي للتاريخ". وفي معتقده أن هذا التفسير يقف وراء كثرة من الظواهر والوقائع. ويذهب بعيداً في رأيه، فيؤكد أنها نظرية، بل نظرية رئيسة لتعليل الحوادث التاريخية. وقد كان ماركس، لهذه النظرية، "بمثابة داروين لنظرية التطور" (22، 142).
إن هذه النظرية، كما يقول، جعلت التاريخ علماً. وما يهمنا، هنا، ليس عرض هذه النظرية، وتقويمها، إنما صلتها بالدين. ويلحظ الدارس أن س. موسى، عندما يفسر ظاهرة أو واقعة معينة لا ينكر تأثير العوامل الأخرى، غير الاقتصادية، فيها. ومن هذه العوامل العامل الديني. يقول مفكرنا إن "الدين كثيراً ما كان سبباً لانقلابات عظيمة لا تقل في تأثيرها عن قيمة المناخ أو الشخصية" (22، 143). ورغم هذا الاعتراف، فإنه يعود ليقول إن الدين هنا "كـان يندفع بعوامل اقتصادية" ( 22، 143)، الأمر الذي يعني أن الاقتصاد يقف وراء الدين عندما يكون ذا أثر فيما يحدث.
ويجب أن نذكر، برأيه، الباعث الاقتصادي في النهضة التي حققتها المسيحية ثم الإسلام فيما بعد. فهو "الذي جعل الفقراء ينضمون إليهما ويعملون لنجاحهما وتغلبهما على الوثنية" (22، 158).
إن س. موسى يبدي إعجاباً شديداً بالنهضة التي حققها الإسلام في القرن السابع الميلادي، قائلاً إنها "ظاهرة من أروع الظواهر الاجتماعية" (22، 150). ومع أنها عزيت كـلهـا إلـى الإسلام، أو كان لـه اليد الطـولي، كما يقول، إلاّ أنه "لم تخطر لأحد تلك العوامل الاقتصادية التي عمـلت عملها إلى جانب الإسلام" (22، 150).
أما الفتوحات الإسلامية التي حدثت بعد وفاة الرسول الكريم، فيجب عدم إغفال "عواملها الاقتصادية"، إلى جانب "الجهاد الديني".
إنه لواضح أن ما هو اقتصادي يُفسر، برأيه، أي ظاهرة أو واقعة. إنه، أي العامل الاقتصادي، أهم عامل. إنه العامل الحاسم المقرر. زد على ذلك أن الأخلاق الجديدة، التي عممتها المسيحية، ثم الإسلام، "يجب أن نرى من خلالها هذا الباعث الاقتصادي" (22، 158).
بقي أن نقول إن س. موسى وجد، عند إمعان التأمل، في أحوال الأمم، صلة متينة بين البيئة الاقتصادية، وبين الثقافة الفاشية في الأمـة. كان لا بد من ذكر ذلك، لأن مفكـرنا انتبه، في ضوء ما تقدم، إلـى أن "ثقافة الدين والأدب والفلسفة" (22، 154)، هي الثقافة الفاشية عند الأمم الزراعية، بما فيها مصر.
وعندما تكون الثقافة أو الحضارة زراعية، وهنا لا يميز مفكرنا بينهما، فإن المسائل الاجتماعية لا تعالج بما يمليه "العقل"، بل بما تمليه "العقائد والتقاليد".
ويستطرد س. موسى في الكلام على أهمية العامل أو الباعث الاقتصادي، ليقول إن الحروب لا تزال إلى الآن تندلع لغايات اقتصادية. أما إذا رأينا في اندلاعها "بواعث أخرى كالدين والحزازة الشخصية"، فإننا يجب أن نلحق بها "الباعث الأكبر وهو الغاية الاقتصادية" (22، 146).
هكذا يخلص س. موسى إلى أن الباعث الاقتصادي يقف وراء كل شيء، مهما كانت البواعث الأخرى. بعبارة أخرى أن أي باعث آخر إنما يفسره الباعث الاقتصادي.
وفي معتقده أن الرق هو أصل الحرب، كما أن الأخيرة عادت بعد ذلك لتكون أصلاً للرق. لا يهمني عرض ما يذهب إليه مفكرنا بخصوص هاتين الظاهرتين، الحرب والرق. ما يعنيني، هنا، هو أن الرق، بنظره، "عاش مدة طويلة ولم يستهجنه دين من الأديان" (22، 145)، معللاً ذلك بأن طول الألفة أزالت عن إفهام الناس غرابة الاتجار بالآدميين. ويزيد قائلاً إنه لا يجد "كتاباً من كتب الدين إطلاقاً يقول بمنع الرق". (25، 30).

الوجدان/ الوعي:
ثمة حاله يسميها س. موسى حالة الوجدان(1)، وهي بعبارة أخرى حالة الوعي. وفي اعتقاده أنها حالة جديدة في الإنسان، بمعنى أنها ليست موجودة لدى الحيوانات العليا إلاّ بمقدار يسير. ولست بصدد بسطها أكثر من ذلك، والتعليق عليها، ذلك لأن ما يعنيني في كلامه عليها هو ما يدل على أيديولوجيته أو فلسفته في الحياة. ويذهب مفكرنا إلى أن منا " من يسرف في الإحساس بحاله الوجدان هذه ويحسب لما بعد الموت ويخرف" (23، 247).
واضح، مما سبق ذكره للتو، أن الحالة الطبيعية للوعي أو الوجدان لا تفضي إلى التفكير فيما يفكر فيه الإسراف. إن التفكير فيما وراء الموت مرده الإسراف لا أكثر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إنه، أي الإسراف، يسوق الإنسان إلى التخريف.
هل يستنتج، مما أسلفته، أن الإنسان، إذا ما فكر فيما بعد الموت، وحسب حسابه، بل وخرّف، إنما قام بذلك لأنه أسرف وحسب؟
أن التفكير فيما وراء الموت رافق الإنسان طوال حياته الواعية، وفي شتى الأزمان، والأماكن. أما التخريف، فإنه يدل، بنظري، على المنحى النقدي للدين الذي ينحوه س. موسى.
ويقابل العاطفة، عند س. موسى، الوجدان. وإذا كان الإنسان وجدانياً، يدري بوجوده، ويعي أنه سيموت، فإن الحيوان ليس كذلك. ما يعنيني، في هذا السياق، هو أن من الغايات المشتركة للفلسفة والدين والعلم أن "ينقلنا كل منها من العاطفة، والنظر الذاتي التسليمي للدنيا إلى الوجدان" (28، 16). إذا كانت هذه غاية مشتركة، فهل يعني ذلك التشابه بين هذه الصور من صور الوعي الاجتماعي؟
الجواب يغيب عن ذهن س. موسى، على الأقل، هنا، في المقارنة التي يعقدها بين العاطفة والوجدان.
أمّا السؤال الآخر الذي يخطر بالبال فهو: هل هذه، نظراً وفعلاً، غاية لكل هذه الصور؟
ليس من شك فيما يتصل بالعلم. أمّا الفلسفة والدين، فإنهما يختلفان عنه. زد على ذلك أن الدين يختلف عن الفلسفة أيضاً.
أنني أعتقد أن أحوال الناس، في شتى الأزمان، وكل الأماكن، كان يمكن أن تكون على غير ما كانت عليه، لو كانت هذه غاية كل واحدة من هذه الصور. ولو كانت هذه غاية مشتركة، لأمكن تعاون الفلاسفة وعلماء الدين والعلماء من أجل تحقيقها، كذلك. بيد أن الواقع يدحض ذلك.
ورغم هذه الغاية المشتركة للفلسفة والعلم والدين، إلا أن مفكرنا عندما يشرح(1) الطرز الثلاثة للتفكير الوجداني، لا يذكر الدين، ربما نسية أو تناساه. إن جميع الناس يستعملون هـذه الطرز، ولكـن بتفـاوت بينهم. " فإذا كنـا عبقريين قد احترفنا الفلسفة أو العلـم استعملنا الطراز الثالث..." (28، 64)، "وإذا كنا دون ذلك استعملنا الطراز الثاني" (28، 64). أما كثرة الناس، فتستعمل الطراز الأول على ما فيه من أخطاء كثيرة.
إن من حقنا أن نسأل عما يلي:
ما الطراز الذي يستعمله معشر المتدينين؟
لا نجد جواباً، عند س. موسى، عن هذا السؤال. لقد اكتفى بالكلام على العباقرة، والكثرة من الناس. أما المتدينون، فلم يتحدث عنهم. هل نستطيع القول إنهم ليسوا من العباقرة، كالفلاسفة والعلماء؟
الجواب عنده نعم، على الرغم من أنه لم يدل بذلك. إذن أين الغاية المشتركة؟
وإذا كان قد نسي أو تناسى أو أقصى معشر المتدينين، عند كلامه على الطرز الثلاثة، فإنه عاد ليجعل للدين مقاماً.
وإضافة إلى تمييزه بين العاطفة والوجدان، فقد ميّز بين الوجدان والضمير. وما يعنيني، في هذا السياق، هو الدين. وإذا كان الوجدان والعاطفة قد اتضحا، فإن الضمير يوضحه قائلاً إنه يتألف من ثلاث ذوات هي: الذات البيولوجية، والذات الاجتماعية، والذات العليا. وتعنينا الذات الأخيرة، لأنها "تتألف من الدين والأخلاق والمثليات..." (28، 142). وتمتاز بها " الصفوة في الأمة" (28، 142). والسؤال الذي يبرز هو: لماذا غاب الدين عن الطراز الثالث السالف الذكر، ولم يغب عن الذات الثالثة، أعلى ذات، كما هو الطراز الثالث الذي يعده س. موسى أعلى طراز؟
ليست ثمة من تفسير مؤكد لهذا الاختلاف. ما يمكن قوله إن س. موسى ليس منسجماً مع ذاته تمام الانسجام، بل أحياناً نجد تناقضات فيما يذهب إليه. والدارس يواجه صعوبة في إصدار حكم على هذا الرأي أو ذاك من الآراء التي يتبناها. ففي موضع يتبنى رأياً، وفي موضع آخر، يدلي بدلو آخر. وأسطع الأمثلة على ذلك، مثال الطراز الثالث والذات الثالثة.
وفضلاً عمّا تقدم يقسم س. موسى الناس إلى ثلاثة أقسام من حيث "مرجعهم في التفكير". وهذه الأقسام أو الفئات هي:
1- أولئك الذين يعتمدون الحكمة.
2- أولئك الذين يعتمدون المعرفة.
3- أولئك الذين يعتمدون العقيدة، " كما كان الشأن في الأمم القديمة، وكما هو الشأن في العامة من الشعب في عصرنا، والمتوحشون والمتأخرون في الحضارة على وجه إجمالي" (28، 187).
إنه لواضح مما تقدم، ويتضح أكثر، إذا أطلع المرء على النعوت التي يطلقها على أولئك الذين يعتمدون الحكمة، والمعرفة، أن العقيدة المقصودة، رغم أنها غير محددة، هنا، هي العقيدة الدينية، مؤكداً أن العقائد كلها بما فيها الدينية "عاطفية" (28، 115)، وأن فساد تفكير كثير من الناس يعود إلى أنهم "يعتمدون على عقائد ليس لها أقل أصل في الحقائق" (28، 187).
ومن المؤكد أن أفضل أنواع التفكير للتصرف هو، برأيه، "تفكير الحكمـة" (28، 188). وهو "فوق المعرفة" (28، 187).
ويتابع س. موسى تصنيفه للناس، قائلاً إن ثمة سعيداً، في مقابل الشقي. ويهمنا هذا التصنيف من أجل مزيد من التعرف إلى فهمه للدين لا أكثر. إن السعادة، كما يقول، هي "في لبابها الوجدان" (28، 213). بعبارة أخرى: هي زيادة الفهم لأنفسنا، ولغيرنا من البشر، وللدنيا أيضاً.
والسؤال الذي يبرز: هل ثمة صله بين السعادة والدين؟
إن السعيد، باختصار، هو "السوي الوجداني." إنه يجاهد في سبيل تحقيق ترقية شاملة إلى حد كبير، تشمل الذهن والنفس والعائلة والمجتمع. ومن الجدير ذكره أن هذا السعيد "يؤمن بديانة ما استقر عليها بوجدانه" (28، 215)، أي بوعيه، وبتعقل منطقي، ونظر موضوعي. إن المتدين الذي سكن إلى ديانة حسنه، وصل إليها بمجهوده، ينتقل، برأيه، من العاطفة إلى الوجدان. وقد يسأل سائل: ما هذا الدين الذي يؤمن به السعيد على هذا النحو؟ هل يمكن أن يكون أحد الأديان السماوية أو أن الأيمان مفتوح على الأديان الوضعية كذلك؟
لا نجد جواباً لديه أو تلميحاً يفيد في التوصل إلى ماهية الدين المقصود. إن ما يمكن قوله إن هذا الدين قد آمن به بمحض اختياره، وملء إرادته؛ وبوعيه. وليس ديناً ورثه عن الوالدين، أو جراّء التقاليد.
وإذا كان السعيد مجاهداً من أجل بلوغ الترقية المذكورة أعلاه، فإن الشقي جامد، برأيه، يعني أنه لا يُعنى بالترقية الآنفة الذكر. إنه لا يؤمن بدين "أو هو لا يعرف من الدين سوى الممارسات العقيديه اليومية المألوفة" (28، 215). إنه يبقى على المستوى العاطفي، يكره أكثر مما يحب، ويتعصب ويغالي بلا روية، كما يقول. لذلك ينعته مفكرنا بأنه، من الناحية السيكولوجية، نيوروزي(1) عاطفي. أما السعيد، فهو يفكر أكثر مما ينفعل. لذلك يصفه س. موسى، من زاوية النظر السيكولوجي، بأنه سوي وجداني. وهكذا يكون الدين هو المعيار الذي يستند إليه س. موسى في التمييز بين السعيد والشقي. وفي اعتقادي أن هذا الدين ليس أي دين من الأديان المتعارف عليها، السماوية والوضعية.
يمضي مفكرنا قدماً في التمييز بين ضربين من المتدينين: الأول عاطفي، والثاني وجداني. إن المتدين الذي "قد يعتمد على العواطف، لأن لـه عقائد جامدة كثيراً ما تؤدي إلــى الفساد الروحي، كــالتعصب مثلاً" (28، 216). أما المتدين الذي يعتمد الوجدان، فهو "ينمو بالمعارف والتفكيــر ولا ينقطع نموه طوال الحياة" (28، 216).


اللغة:
يقلل س. موسى من شأن "جامعة الدين"، معظماً، في الوقت نفسه، من جامعة اللغة. يقول مفكرنا إنه لا شأن لسائر الجامعات بجانب اللغة. وأي رابطة أو جامعة، برأيه، هي نتيجة تربية الفرد مدى حياته، بل تربية أسلافه، نحو ألف أو ألفي عام. ويستطرد في كلامه على رابطة أو جامعة اللغة، فيقول إن لنا في العصر الراهن "عدة روابط ربما كانت أقواها جميعاً رابطة اللغة" (22، 128).
ورغم أن ثمة روابط عديدة تشكل قواسم مشتركة عظمى بين العرب، إلاّ أن س. موسى يعتقد جازماً إن شعور المصريين بعاطفة الإخاء التي تربطهم بالآخرين من العرب، إنما مرده أنهم "يتكلمون مثلنا باللغة العربية" (22، 128).
ويزيد على ذلك قائلاً إن أساس الرابطة الوطنية هو "اللغة". فلو كان سكان مصر يتكلمون لغتين، لكانت مصر قطرين. ورغم تعظيمه من شأن اللغة، فإنه يؤكد أهمية رابطة أخرى، هي الرابطة الثقافية، قائلاً إنها " من أهـم الروابط هذه الأيام" (22، 129). وإذا ما اجتمعت الرابطتان اللغوية والثقافية، كان "لنا من ذلك أقوى ما يمكن تصوره من الروابط التي تربط الأمم.." (22، 130).
صحيح أن كثيرين يبالغون، كما يقول، في الرابطة الدينية، بينما الحقيقة أنه ليس لها قيمة ما لم تدعمها اللغة أو الوطن" (22، 129).
وفي موضع آخر، وربما ما ذهب إليه هو من قبيـل الخلاصـة لموقفه إزاء صلة الدين بالوطنية، يقول س. موسى إن الدين، عند التحليل، "ينافي الوطنية" (22، 30). والسؤال، بهذا الخصوص، هو: لماذا يعد الدين منافياً للوطنية؟
والجواب عنده هو أن الدين يطلب المساواة، ويدعو إلى الإخاء بين البشر كافة، في حين أن الوطنية "تتطلب الإثرة القومية" (22، 30).
هل يعني ما تقدم أن س. موسى يؤثر الدين على الوطنية؟
قد يبدو ذلك للقارئ غير المتمعن، في فكره، أن ما ذهب إليه هو مجرد مقارنة بين الدين والوطنية لا أكثر. وهي لا تنطوي على أي تفضيل لهذا على ذاك.
الدين ونظرية التطور
داروين ونظرية التطور:
أعجب س.موسى بداروين وكتابه "أصل الأنواع" أيما إعجاب. وكثيراً ما ذكرهما في كتاباته. وفي كل مرة كان يتحدث عنهما بإعجاب ما بعده إعجاب. إن ما يقولـه عن هذا الكتاب هو أن على كل دولة تحترم عقول أبنائها، وتحب أن تحيطهم بسياج من التعقل، في سلوكهم وأهدافهم، واجب مقدس يتمثل في ترجمة كتاب "أصل الأنواع"، لأنه، برأيه، "كتاب الكتب وأصل الأصول في التفكير العصري" (42، 87).
ومع أن مفكرنا يؤكد أن داروين كان، في هـذا الكتاب، "متحفظـاً مستحياً" (23، 257)، إلا أنه، في الوقت نفسه، يرى فيه "جرثومة لتفكير توجيهي جديد، ليس فـي النبـات والحيوان فقط بـل فـي الاجتماع والاقتصاد والدين والسياسية" (23، 257). إن نظرية التطور، برأيه، نظرية عظيمة، وتعد "مفتاحاً لجميع العلوم والأديان" (38، 93).
لقد اكسبنا داروين، "فهماً جديداً للطبيعة والكون والإنسان"، كما "زودنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل" (27، 27). وهو، أي المنهج، يتمثل في أن الطبيعة لا تعرف الاستقرار، أو أن الكائنات الحية في تغير مستمر.
يؤكد س.موسى، في أحيان كثيرة، أن التطور نظرية أو حقيقة علمية نقيسها بالمليمتر والميلجرام. ورغم ذلك، فإن الشاب الذي درس تطور الأحياء، "لا يتمالك أن يحس أحساساً دينياً نحو الطبيعة" (27، 4). ثم إذا درس تطور المجتمع البشري بما فيه الأديان، "فإنه لا يتمالك أيضاً" أن يحس المسئولية نحو الوسط الذي يعيش فيه.." (27، 4)، لأنه هو نفسه قد أصبح، برأيه، جزءاً عاملاً في هذا التطور. وإذا كان النظر في التطور العضوي، يؤدي إلى إحساس ديني، فإن التطور المجتمعي يمكن أن يعد، من هذا المنظور، "ديناً أو مذهباً بشرياً جديداً" (27، 4).
يستطرد س. موسى قائلاً إن أوروبا انتهت، بفضل لامارك ثم داروين، إلى الإيمان بفكرة التطور، التي أصبحت، فيما بعد، عقيدة. بل "أخذت عقيدة التطور هنا مكان العقيدة الدينية" (27، 22).
إن التطور "عقيدة بل ديانة كما هو حقيقة" (27، 23). لقد أصبح "مذهباً دينياً، أو مبدأ أخلاقياً عند المثقفين" (27، 27).
ويلحظ الدارس لفكر س. موسى أنه يعزو تأخر فكرة التطور في الشرق والغرب معاً إلى الأديان، ولا سيما قصة الخلق فيها، وكأن قصة آدم وحواء "الأصل الوحيد لظهـور الإنسان" (27، 22)، ومن يقول بغير ذلك "يعد كافراً" (27، 22). ومن الأقطار التي تأخرت في الأخذ بنظرية التطور، وبذلك تأخرت ثقافتها، أقطار الشرق العربي. وإذا لم "تسلم" الجماهير العربية المتعلمة، برأيه، بأن التطور "عقيدة بل ديانه كما هو حقيقة"، فإن مؤلفات منيره مبصره مثل "تطور الأديان" أو "تطور المجتمع البشري" أو "تطور الأخلاق" لا يمكن أن توجد. لذلك يؤكد مفكرنا خلو الأقطار العربية من "متطورين"، موضحاً ذلك بأن "مغزى التطور" لم يفهـم فيهـا. (27، 23).
إن الشعوب العربية مدعوة إلى جعل التطور "عقيدة دينية" إذا كفر بها إنسان، فإنه يعاقب بالموت أو الفقر والذل، ولا يعاقب بجهنم بعد الموت.

هل يمكن أن تصبح نظرية التطور ديانه؟
إن "الوجدان الديني" الذي أحس به القديس فرانسيس(1)، وأحسن به آحاد معدودون، سوف يشعر به ملايين من البشر عندما يعرفون صلتهم بجميع الأحياء، الأمر الذي يجعلهم يحترمون الحياة أينما كانت، ذلك لأن كل حي، برأيه، هو قريب، وأخ بقرابة، إذا لم تكن قائمة على الرحم، فهي مبنية على التطور. ويخلص مفكرنا، مما سبق، إلى أن هذه الأحياء هي "قرابتنا التي يجب أن تجد الحرمة الدينية من كل إنسان متمدين" (23، 10). ولا غرابة، بعد كل ذلك، أن يؤكد س. موسى "الغاية الدينية السامية لنظرية التطور" (23، 10).
هكذا نظر مفكرنا إلى نظرية التطور. لقد جعل منها "ديانة طبيعية" يمكن أن تحل محل الأديان، بل أذهب بعيداً لأقول إنه أراد بذلك، أن تكون "ديانة علمية"، لأنها ترتكز على "أصول العقل والتجربة". والسؤال الذي قد يُطرح هو: لماذا تكون نظرية التطور "ديانة.."؟ والجواب عندي، كما اعتقد، أن النظرية عندما تكون ديانة، يكون التعامل معها بشيء من التقديس، الأمر الذي يجعلها في موضع يصعب التطاول عليه. بيد أن تديين النظرية لم يُوت أكله. لقد كانت فئة رجال الدين، وأيضاً المتدينون من كل دين من الأديان التي تعد سماوية، هم أكثر الناس تصدياً لها. ولا تزال هذه النظرية تلقى من المعارضة ما تلقاه. وتواجه هذه النظرية بما يسمى "التصميم الذكي: و"علم الخلق". ومن يتابع الجدل القائم في أكثر من بلد، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، سيتحقق من أن هذه النظرية هي موضع شك، بل إنكار، رغم أن الفاتيكان، على سبيل المثال لا الحصر، يؤكد تطابق علم التطور مع الإنجيل. وثمة مدافعون من رجال الدين المسيحي عن هذه النظرية. فقد أكدت رسالة وقعها أكثر من عشرة آلاف من القساوسة والكهنة، من معظم الطوائف، والفئات المسيحية، في الولايات المتحدة، أن "نظرية التطور هي حقيقة علمية مؤسسية". وهي واحدة استطاعت الصمود في وجه الاتجاهات المتشددة، وتستند إليها الكثير من المعارف والإنجازات الإنسانية". ومضت الرسالة إلى القول " ولرفض هذه الحقيقة أو لمعاملتها كنظرية واحدة من بين عدة نظريات، فإن ذلك يعني تبني الجهل العلمي عن عمد، ثم توريث هذا الجهل إلى أولادنا". وفي العالم الإسلامي تلقى هذه النظرية معارضة شديدة على شتى الصعد، وهي تشتد وتقوى جرّاء تعاظم الدور الذي يؤديه الإسلام السياسي. واستناداً إلى نظرية التطور يتناول س. موسى قصة الخلق، قائلاً إن المأثور في كتب السلف أن "الإنسان خلق كما هو الآن. وسيبقى كذلك إلى الأبد" (23، 28) إن هذه النظرية بسطت لنا الماضي، فجعلتنا نرى الإنسان مختلفاً عما هو عليه الآن، بمعنى أنه تطور ليكون كذلك، وأيضاً بسطت لنا آفاق المستقبل، مؤملين أنه سيكون أفضل مما هو الآن، يعني أنه سيكون سوبرماناً.
ورغم أن الشواهد على علمية النظرية لا تحصى، في نظره، إلاّ أنه يعجب لتأخر الجماهير المثقفة في اعتناقها، ويعجب أيضاً لأن أحداً من الفلاسفة لم يقل بها إلاّ منذ أقل من قرن. والسؤال لماذا حدث ذلك كله؟
إن الجواب عنده أن العقيدة الدينية هي السبب في ذلك. فالمؤمنون بها يذهبون إلى أن الأحياء مخلوقة، وبصورة مستقلة، يعني أن كل حي من الأحياء خلق مستقلاً عن الآخر.
إنه لواضح أن مفكرنا يجـعـل العلم، وهنا المقصود نظـرية التطور، فـي تضاد مع الدين. ويخلص إلى أن العقيدة الدينية "حالت دون التفكير في التطور" (23، 25).
وفي الحق أن هذه النظرية واجهت ولا تزال تواجه نقداً لاذعاً، بل ساخراً، أحياناً، لأنها يمكن أن تقوض ما يسمى بنظرية الخلق أو التصميم الذكي، مع أنها لا تتعرض، بصورة مباشرة، لها.
ومعلوم أن المفكرين ورجال الدين العرب قد انقسموا حيالها. فمنهم من استند إليها لتعزيز المادية كشبلي شمّيل مثلاً. ومنهم من شنّوا عليها حملة شعواء باسم الدين، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني، وذلك في "رسالة الرد على الدهريين". ومنهم من لم ير تعارضاً بين الدين والنظرية. ولعل أبرزهم الشيخ نديم الجسر، الذي أكد أن الحملة القاسية عليها "إنما نشأت من عدم معرفة حقيقة آراء دارون، أو منْ توهم تعارضها مع الإيمان بوجود الله، تعارضاً أساسياً قاطعاً" (26، 184)، مؤكداً أن هذه الآراء في أصل الأنواع وقوانين النشوء والارتقاء، " لا تنافي وجود الله، خالق المادة بعناصرها، وقوانينها في تحولها وتطورها" (26، 184). ويمضي الشيح الجسر قدماً فيؤكد أن دارون نفسه "مؤمن بوجود الله" (26، 187).
يطول الحديث عن المواقف التي اتخذها المفكرون العرب إزاء نظرية التطور. ولكن أبرزها هي السالفة الذكر، باعتبارها أقرب إلى أن تمثل اتجاهات.

آراء أخرى في الدين، وتجليات علمانية:
وجهتا الأديان:
لم يفرد س. موسى للدين كتاباً(1). لذلك يتعين الإطلاع على جميع كتبه أو معظمها، من أجل التعرف إلى رؤيته إلى الدين. وأستطيع القول إن رؤيته، إن جاز أن تكون لديه رؤية متكاملة، مبعثرة هنا وهناك، وأجزاؤها منثورة في الكثير من كتبه. ومما ذهب إليه، بهذا الشأن، إن لكافة الأديان، سواء كانت سماوية أو إلهيه، كما ينعتها أحياناً، أو وضعية، وجهتين. الأولى غيبيه، والثانية دنيوية. وتتمثل "الغيبية" في أنها تعيّن مركز الإنسان، في الكون، أي موقفه من أصل الدنيا، واصل البشر، ومصيره بعد الموت، وما يلقى من ثواب أو عقاب في نعيم أو جحيم. ويؤكد مفكرنا أن الأديان القديمة كلها تُعنى بشرح ما بعد الموت، "وكأن هناك حياة هي خير من الحياة على الأرض". (35، 187). ولكن ما الأديان القديمة.؟
لا يجيب س. موسى عن هذا السؤال، ولا يحدد لنا هذه الأديان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يحتاج القارئ إلى كبير ذكاء، ليلحظ أن مفكرنا معني بالحياة الدنيوية، وأن الحياة الأخروية موضع شك، بل إنكار، دون أن يفصح عن ذلك. أما الوجهة الدنيوية، فهي، برأيه، ما يتصل بمعايش الناس وأخلاقهم.
حرية اختيار الدين:
في كلامه على كتابه "حرية الفكر وأبطالها في التاريخ" يؤكد مفكرنا أن هذا الكتاب لا ينطوي على "دعوة إلى كراهية الدين". والسؤال الذي يبرز، في ضوء ذلك، هو: ما الغاية التي رمى إليها من تأليفه؟
إن غايتـه تتمثـل فـي الـدفاع "عن حريـة الشخص فـي اختيار دينـه" (30، 171). ولا شـك في أن هذه الحرية تعنـي أيضاً حرية تغيير الدين، رغم أنه لا يذهب هذا المذهب. ويكون الاختيار للدين "كما يراه في مرآه ذهنه وضميره" (30، 171).
إذن الذهن والضمير هما اللذان يقومان بالاختيار. إنه اختيار شخصي محض، اختيار قائم على الوعي، ونابع من الذات.
هل يمكن ذلك في بلد عربي أو إسلامي؟ يستحيل ذلك، لأن المواطن "يرث" دينه. وما عليه إلاّ "الرضى" به، والإجابة عندما يُسأل، بأن دينه كذا. أما تغييره، وهو حق ممنوح لـه بمقتضى المادة 18 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، فيؤدي إلى اتهامه بالردة، وقد يحكم عليه بالقتل. تنص المادة المذكورة على ما يلي: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته..".
إذن الدين هو محض اختيار، والشخص المختار حر في ذلك، لأن "الدين يؤذي الناس إذا كانت الحكومة تسومهم إياه.." (30، 171). إنه، في هذه الحالة، "يقف حاجزاً دون حرية التفكير، وحرية الاعتقاد" (30، 171).
هكذا يلح مفكرنا على هذه الحرية، مؤكداً أنه من غير الجائز أن تأمرنا سلطة خارجية بالإيمان، بحيث إذا لم يؤمن نعاقب بالجلد أو الحبس أو القتل. إن دعامة الدين، برأيه، "يجب أن تكون داخلية نابعة من الذهن نؤمن بها إيماننا بالحقائق العلمية المجربة.." (30، 171).
هل ثمة دين في العالم، وأنا، في هذا المقام، أقصد الدين السماوي، يمكن أن نؤمن به على هذا النحو؟
إنه لمستحيل، ولا أقول متعذراً.

دينان لا ثالث لهما:
في اعتقاد مفكرنا أن ثمة دينين: الأول رسمي، والثاني ضميري. الأول يتصف بأنه تقليدي ينفذ إلى القلب أو يطفو على اللسان بقوة سلطة خارجية يؤيدها السيف أو العادة. أما الثاني، فينبع من القلب. وهو يقرر صلة الإنسان بالكون. والواقع أن الدين الأول ليس ديناً بعينه، بل هو مجموعة من الأديان، جلها توحيدي، كما ينعتها، وواحد منها وضعي هو البوذية. أما الدين الثاني، فهو الصوفية، التي تنشأ من "وحي الذهن وتستصفى من حوار العقل والمنطق" (30، 98). إنه يميز بين دين ذي سلطة خارجية، ودين ذي سلطة داخلية، مؤثراً الثاني على الأول، لأنه نابع من القلب، ومستوحى من الذهن.
ولنا أن نسأل، في ضوء ما تقدم، هل ثمة دين من الأديان السماوية أو الوضعية، يستند إلى القلب والضمير والعقل والمنطق؟
واضح مما ورد أعلاه أن مفكرنا يعتقد ذلك، ويرى في الصوفية، التي لا تعد ديناً، أنها كذلك. ومن المعلوم أنها تقوم على البصيرة أو الحدس أو الوجدان. أمّا صلتها بالعقل والمنطق، فإنها ضعيفة للغاية، ذلك إنها تعول على ما يسمى باليقين الذاتي. وهي تصنف بأنها اتجاه لا عقلاني. أما الصوفية المذكورة أعلاه، فهي مختلفة تماماً.

الإيمان الديني والمنطق:
إن السؤال الذي يطرحه س. موسى في أثناء كلامه على إيمان ويلز، الذي لا يقوم أو يتأسس على المنطق، هو: هل "في العالم إيمان ديني يرتكز على أساس من المنطق؟"
ويجيب مفكرنا عن سؤاله المطرح قائلاً: كلا.
وإذا كان الإيمان الديني لا يمكن أن يكون "منطقياً"، فعلى ماذا يستند أو يقوم؟ أنه، برأيه، "يرتكز على الاختبار" (22، 23) الذي إما أن "نثق باختبار آبائنا الشخصي، ونصدق ما روته كتبهم، وإما أن نثق باختبارنا الشخصي" (22، 23).
إنه لواضح، مما تقدم، على الأقل، أن س. موسى يتناول "الإيمان الديني" بمعزل عن الأنبياء والرسل، وأيضاً كتبهم التي تعد مقدسة، بنظر اتباعهم من المؤمنين. واللافت للنظر أنه لا يتكلم عن إيمان ديني محدد، بل يتحدث عن "الإيمان الديني كائناً ما كان" (22، 23). وهذا يعني أنه لا يبرز إيماناً قائماً على دين بعينه، سواء أكان الدين سماوياً أو وضعياً.

ضرورة الدين ونقده في آن:
منذ شرع س. موسى في الكتابة، وهو معني بالدين. ولنا أن نتساءل: هل كان رأيه فيه ، منذ البدء، إيجابياً، هل طرأ تغير عليه، فيما بعد، ولا سيما في أواخر حياته؟ يؤكد مفكرنا أن " الدين ضروري لكل أمة ولكل فرد" (24، 23). وضرورته تتمثل في أن الإنسان يتعذر أن يعيش "بلا دين"، ذلك لأنه ما دام قد شرع يفكر في الكون، من الناحيتين المكانية والزمانية، "فقـد شرع يفكـر فـي الـدين". (24، 23) ورغم ما تقدم، وهو يعكس رأياً إيجابياً في الدين، فإنه، بعد ذلك، يبدأ بالتصدي للأديان بتوجيه انتقادات لاذعة لها. ويستند في ذلك إلى أن الرقي يقتضي التغيير، في حين أن الأديان الراهنة، دون أن يسميها، تعرقل "سير الرقي"، وذلك بتدخلها في أمور العالم. ويتابع قائلاً إن الأديان، "للصفة المقدسة التي تتصف بها، تقف جامدة لا تقبل تغييراً، فتعمل بذلك لجمود الأمة" (24، 23).
يتضح، مما تقدم، أنه لم يذكر ديناً بعينه، إلاّ أن كلامه على الأديان المقدسة، إنما يعني بذلك الأديان السماوية. وأغلب الظن أن الإسلام هو الدين الأول المقصود بذلك. ومرد هذا الظن أنه يعتقد بتفاوت الأديان، من حيث التدخل في شؤون الناس. ويثني على المسيحية، في الغرب، بقوله "وربما كانت أقلها من هذا الوجه"، ويزيد قائلاً "وقد يعزى بعض الرقي في الأوربيين إلى ذلك..." (24، 23).

نقد الفلسفة والفقة (الدين):
ينقد س. موسى الفلسفة لانفصالها عن المجتمع البشري، وينقد الفقه أيضاً. فقد صار الفلاسفة يبحثون عن مشكلات ذهنية خالصه، واستسلم فقهاء الدين "للتفكير الغيبي الذي يتجاوز هذا العالم وينأى عن مشكلاته الصغيرة والكبيرة" (36، 243). إن مفكرنا يؤكد ضرورة ارتباط الثقافة بالمجتمع البشري، ذلك لأن انفصالها يجعلها غير بشرية، أي عقيمة، بل وصفها بالعقم لا يكفي برأيه. ويقصد بهذا النقد ضربين من التفكير انفصلا عن المجتمع، هما الفلسفة والدين. ويرى مفكرنا أن هذا الانقطاع عن شؤون المجتمع يجعل التفكير "فاسداً ومفسداً معاً، لأنه ينقل الاهتمام من شئون المجتمع ومشكلات الإنسان إلى عالم وهمي من الغيبيات والمشكلات الكاذبة التي لا أصل لها" (36، 244).
إن الارتباط بالمجتمع دعوة كثيراً ما شدد عليها س. موسى. وفي الحق أن الفلسفة والفقه مدعوان إلى ذلك، لأن المجتمع والإنسان هما مجالهما الأول. وبالنظر إلى أن الفلسفة تتصف بالعمومية والتجريد، فإن غير المتخصص بها، قد لا يرى هذا الارتباط. زد على ذلك أن صلة الفلسفة بشؤون المجتمع، وقضايا الإنسان، ليست مباشرة، ذلك لأنها تعنى بالمفاهيم والمقولات التي لا تخص مجتمعاً بعينه، أو إنساناً بذاته. إن سلامه موسى يريد من الفلسفة أن تكون خاصة، أي أن تُعنى بمشكلات محددة من مثل: ما الذي يجعل أحدنا مستقيماً؟ وما الذي يجعل حكومة ما فاسدة؟ وغير ذلك من الأسئلة والمشكلات التي لا تُعنى بها الفلسفة بصورة مباشرة وخاصة. وليس ثمة ما يحول دون عناية الفلسفة بها. صحيح أن مضمار الفلسفة ليس هذا. يمكن أن تكون الفلسفة عملية، أعني أن تطبق مفاهيمها ومقولاتها على حالات محددة، وقضايا خاصة. وثمة مشتغلون بالفلسفة يضطلعون بهذا الدور، إلاّ أنهم أقلية في الوطن العربي. ولا يعني التطبيق انتقال الفلسفة إلى عالم آخر غير عالمها. فمهما كان العالم الذي تدور فيه الفلسفة، فإنه يبقى عالمها، طالما أنها لم تتحول إلى صورة أخرى من صور الوعي الاجتماعي.
إن ما ذهب إليه سلامة موسى ليس جديداً. فقد أُتهمت الفلسفة بأنها منفصلة عن الحياة الحقيقية أو المجتمعية، وتجلس في برج عاجي، وتحلق في فضاء لا صله له بالواقع. يقول اوليفر ليمان أن ثمة مفهوماً رومانسياً تخيلياً عن الفيلسوف، "باعتباره مخلوقاً من العالم الآخر، ليس لـه اهتمام بالمسائل الحياتية العملية على الإطلاق" (37، 36). إن الفيلسوف، في العادة، لا يُعنى بالواقع الملموس، وبصورة مباشرة، على الرغم من أن هذه العناية، وبهذه الصورة، ليستا ممتنعتين عليه. إنه ينطلق من تاريخ الفكر الفلسفي، ومن مستوى معين بلغة هذا الفكر، ابتغاء تحقيق مستوى أرقى. ولا يتأتى ذلك إلاّ بمستويات من "التجريد بالغة السمو أو عميقة الأغوار" (37، 35).

الدين عندما يكون أداة:
يدعو مفكرنا، بمنتهى الصراحة والوضوح، إلى فصل الدين عن الدولة، معتقداً أن "الدين في نفسه لا يمكنه أن يضطهد العلم" (30، 25). إنما الاضطهاد يرجع إلى من يسميهم س. موسى "الكهنة" أو "رجال الدين"، الذين هم، في الوقت نفسه، قابضون على السلطة. أما إذا كانوا مجردين منها، فإنه لا حول ولا قوة لهم. "وما دام الدين بعيداً عن الحكومة، فإنه لا هو ولا كهنته يمكنهم أن يضطهدوا أحداً. أما إذا صارت الدولة والدين جسماً واحداً، فقد أمكن "رجال الدين أن يضطهدوا من يشاؤون، وأن يقيدوا الفكر كما يشاؤون" (30، 25). وفضلاً عن "رجال الدين"، يلحظ س. موسى أن الحكام يلجأون إلى الدين، بل هم شغفون به، وأكثر استعمالاً له من "رجال الدين" أنفسهم، وذلك من أجل اضطهاد الناس.
إن الاضطهادات، برأيه، لا تعيب الدين، بل هي تقرير "لما يفعله الحاكم متسلحاً بالدين" (30، 25). أنه "أشغف بالدين، وأكثر استعمالاً له سلاحاً يرهب به الناس" (30، 25) من "رجل الدين" نفسه. أن الحاكم يحتاج إليه من أجل أن يخيف به العامة. أما "رجل الدين"، فربما "نزع إلى الزهد" (30، 25).
هل يمكن القول إن السلطة الحكومية، الممثلة في الدين أو المستعينة به، هي التي تقيد حرية الفكر وتضطهد؟ الجواب عند س. موسى: نعم، وهو يعلل ذلك بأن الدين يزيد سلطان الحاكم، إذ يمتد ليشمل العالم الثاني، أي العالم الأخروي، الأمر الذي يجعل سلطانه أكبر.
ويخلص س. موسى إلى أن الطائفة التي تضطهد الناس باسم الدين قد تكون من رجال السياسة أو من رجال الدين.
وفضلاً عما تقدم، يعتقد س. موسى أن الدولة التي لها دين رسمي لا يتوافر فيها مُناخ التصدي للدين أو نقده، مؤكداً أن كـل دين "يحتـاج إلى نقـد وشـرح" (42، 72). وفي دولة كهذه يكون "الطعن في الدين أو انتقاده داعيه إلى تألب طوائف عديدة للذب عنه، منهم العامة الذين يحثهم خوفهم من الدين، اضطهاد المنتقد، ومنهم الكهنة الذي يخشون على مصالحهم، ومنهم جميع أفراد الأمة تقريباً الذي يـرون أن السير على سنن السلـف أيسر على قلـوبهم من ابتـداع البدع.." (30، 17).
من الجلي أن ما سبق ذكره، إنما هو دفاع عن أطروحته، أعني العلمانية.

الأديان والأخلاق:
يرى مفكرنا أن "الأديان كلها سواء في الصحة من حيث اعتمادها على الوحي في إيجاد أخلاق جديدة.." (39، 49). ويتابع قائلاً إن أساسها واحد، كما أن منطقها في الإقناع واحد. وهذه الأديان التي ينعتها بأنها إلهامية، هي ثورية، بمعنى أنها نشأت للثورة على أخلاق المجتمع. أنها "في صميمها ثورات" (39، 49).
إن أبرز ما يميز نظره س. موسى إلى هذه الأديان هو أنها أخلاقية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ألحظ أنه، عني بالأديان السماوية، وأغفل عن الأديان الوضعية، رغم أنه قال في بدء كلامه "الأديان كلها..". واضح مما تقدم أن ثوريتها تتمثل في بعدها الأخلاقي وحسب. والحق أن الثورة تتصف، في العادة، بالشمول. وما البعد الأخلاقي سوى بعد من أبعادها. وبالنظر إلى كفاح النبي من أجل أخلاق جديدة، فإن المتجمع، كان يضطهده، وحكومات المجتمع تعارضه وتطارده. إن كفاح الانبياء يجعل من "حياة كل واحد منهم قصيدة عالية في الشرف والشهـامة والسمو" (39، 50).
هكذا تتجلى منزلة الأنبياء. ومما يلحظه القارئ أنه، إذ يعظم من شأنهم، لا يذكر أسم أي واحد منهم. وفي الوقت الذي يعظّم فيه من شأنهم، يوجه نقداً لاذعاً لمن يأتون بعدهم، ولا سيما رجال الدين. وإذا كانت الأديان الإلهامية ثورية بفضل الأنبياء، فإن الدين " يستحيل برجاله الجدد، من الثورة إلى الجمود، ومن الرغبة في التغير والتطور إلى الرغبة في الاستقرار والتأبد" (39، 50).
وهؤلاء الرجال الجدد، هـم رجـال الدين، هم طبقـة جديـدة من المتفقهين في الدين، ينتفعون ويرتزقون منـه. لذلك كان هؤلاء، "على الدوام، محافظين" (39، 50). وإذا وجد بينهم ثائر، فإنه، برأيه، "يخرج من حظيرتهم أو يعدم. وهذا هو معنى الاضطهاد الديني الذي سفكت دماء الألوف بسببه في جميع الأديان الإلهامية" (39، 50-51).
إنهم ينساقون في السلطة المطلقة.
إنه لجلي تمييزه بين الأنبياء ورجال الدين، حيث يعظّم من شأن الأولين، وينقد، بصورة لاذعة، الأخيرين.



الدين والتفكير الحر والتنوير:
في مستهل عام 1937 أكد س. موسى الحاجة إلى رأي عام مستنير يدرك النزعات العصرية، ويتشبع بها، ويتحمس لها. كما يدرك النزعات الرجعية، ويخشاها، ويعمل للوقاية منها.
وإذ يسأل عن الشرط الأساسي لتنوير الرأي العام، فإنه يجيب بأنه يتمثل في "الحرية المطلقة للتفكير" (29، 82). وهي، برأيه، مفقودة. "فنحن لا نستطيع أن نفكر في الدين أو في السياسة أو في الاجتماع تفكيراً حراً" (29، 82).
ويستطر س. موسى، فيقول إننا نريد جمعيات تضم أعضاء ممتازين بالكفاية والتضحية معاً، من أجل أن تدرس، فيما تدرس، "الدين" (29، 86). كما يجب عدم الكف عن أن نبين "قيمة الحرية الفكرية في الأدب والاجتماع والدين والاقتصاد...." (29، 83).
إذن لا سبيل لتنوير الرأي العام إلاّ بإطلاق الحرية الفكرية وبأن يكون التفكير في مجالات عديدة، منها الدين، حراً.
هل يمكن التفكير بحرية، وبإطلاق، في الدين؟ هل يمكن درسة على هذا النحو؟
إنها لأمنية لم تتحقق بعد. ويبدو أن بلوغها صعب المنال. ومن المؤكد أن الأحوال تزداد صعوبة بالنسبة لهذا الأمر. وما أكثر المعوقات التي تعترض سبيل الدرس.
إن التنوير يكون أكثر، وبالتالي يكون التمييز أكثر، عندما يتعرف المرء إلى الرأي وضده في آن. ويذكر س. موسى، على سبيل المثال، "جمعية العقليين"، " وجمعية نشر المعارف المسيحية"، البريطانيتين. فقد كانت الأولى تدعو إلى الإيمان بالعلم وحده، وأيضاً تشن حرباً على الأديان. أما الثانية، فكانت تدعو إلى المسيحية، وتؤكد ضرورة الدين. وكان الجمهور البريطاني يستنير بقراءة كتب الجمعيتين. ولو كان هذا الجمهور قرأ كتب إحدى الجمعيتين فقط، "لكان أقل استنارة، وبالتالي أقل كفاءة في التمييز...، (29، 85).
هل يُستنتج، مما تقدم، أن مفكرنا يدعو إلى التشبه بهما؟
إنه لواضح أنه يتخذ موقف المحبذ لذلك. و إن دل هذا على شيء، فإنما يدل على اعترافه بالرأي الآخر، واحترامه لـه بل تأكيده عليه. صحيح أنه يميل إلى "جمعية العقليين" التي قرأ كتبها، وتأثر بها، إلاّ أنه، في الوقت نفسه، لا يدعو إلى الحوؤل دون التعرف إلى فكر آخر يختلف كبير الاختلاف عن الفكر الذي يروقه. وبالنظر إلى جزمه بأننا في زمن يحتاج إلى "التجديد الديني"، والتجديد لا يقوم على الهدم وحسب، بل والبناء كذلك، فإنه يوجه النقد لهذه الجماعة. لقد أدى تعرفه إليها إلى أن يقرأ كل كتاب أصدرته، قائلاً إن "معظـم مؤلفاتهم في نقض الأديان وخصوصاً الديـن المسيحي" (22، 172). ولمّا كان البناء المهمة التي تلي الهدم، وهذه الجماعة، بنظره، هدّامة، فإن نفسه لم تسكن إليهم، "إذ لا يمكن أن نسميهم مجددين، فهم يكتفون بهدم الدين" (22، 172).
صفوة القول: إن الاستنارة تكون أفضل، والتمييز أحسن، وذلك بالتعرف إلى الشيء وضده في آن.

تجديد الدين وقصور النهضة:
يلحظ القارئ أن س. موسى تطلع إلى الجديد في كل شيء، وذلك مما بدأ يكتب. فكتيبه "الاشتراكية" ينطوي على دعوة واضحة إلى الجديد في كل شيء، وفي كل يوم، "في الحكومة وفي الدين. والمصنع والمزرعة والعيله والجمعية" (21، 7). ورغم المبالغة في ذلك، فإن مفكرنا يسوّغ هذه الدعوة بأن الناس يتطلعون إليها. وهو أحد الناس، بل أولهم فيما يتصل بها. لم يكن بإمكانه أو لم يرد، في ذلك الوقت، الإفصاح عن الجديد الذي يدعو إليه في الدين. وبالرغم من ذلك، فإنها دعوة جريئة، لم يتردد في طرحها. ومع أنها دعوة عامة، إلاّ أنها قصدت إلى الدين في المقام الأول. إن كلامه على لوثر، وعلى الدور الذي أداه، يدل، بوضوح، على أن الدين أولاً كان مراده. وفي ذلك الحين، في عام 1913، لم يبين س. موسى الجديد الذي يتطلع إليه. هل اتضحت معالمه فيما بعد؟ سنرى.
ويتابع مفكرنا ، في وقت لاحق، قائلاً إن ظهور البروتستنتية هو "أعظم ما حدث من التجديد" (22، 150). وفي الوقت نفسه يوجه نقداً لاذعاً للبابوية في تاريخها الطويل، مشبهاً إياها بالخلافة عندما أصبحت "ملكاً عضوضاً". وينتهي من تقويمه لها إلى أن الباباوات "كانوا ينظرون إلى تكبير سلطانهم الاقتصادي أكثر مما كانون ينظرون إلى إحقاق الدين" (22، 150).
وفي العقد الثاني أو الثالث من القرن المنصرم، سلّط س. موسى شيئاً من الضوء على ما أسماه المجددين، معتقداً بل متعجباً أشد التعجب من قلة رجال النهضة المجددين في الشرق العربي، رغم أن لدينا عدداً غفيراً من رجال الأدب والدين والسيـاسة. ويجزم س. موسى بأن أحداً من هؤلاء ـ خلا نفر قليل ـ لم يسائـل نفسـه: هـل "الدين في جموده الحاضر يرفـع النـاس أو لا يـرفعهم." (22، 131).
إن ما أراد لفت الانتباه إليه هو أن هؤلاء أخذوا باقتفاء أثر السلف، ولم ينشطوا من أجل التجديد والنهضة. أمّا النفر القليل ـ وما أقلهم ـ ، برأيه، فقد عملوا في سبيل التجديد والنهضة. وهؤلاء المجددون، رغم التفاوت بينهم، وأيضاً المجالات التي نشطوا فيها، هم جمال الدين الأفغاني و محمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيّد، وطه حسين وعباس العقاد وعبد الرازق [ ربما المقصود هو علي]، وفي سوريا والمهجر أمين الريحاني، وجبران خليل جبران، وخليل السكاكيني. ويذكر س. موسى فضل المقتطف والهلال وشبلي شميّل في نشر مذهب النشوء. ويستدرك قائلاً إنه لم يذكر آخرين، ربما لأنه مصري يجهل أسماء المجددين في الأقطار العربية الأخرى.
ويواصل مفكرنا، في سياق آخر، كلامه على النهضة في مصر خاصة، والأقطار العربية، عامه، متخذاً من النهضة في أوروبا أنموذجاً.
يقول س. موسى إن النهضة الأوروبية، في واقع الأمر، لم تكن نهضة واحدة، إذ تحققت مجموعة من النهضات الدينية والأدبية والعلمية. وفي اعتقاده أن أساسها كان "الرغبة في إصلاح الدين وكف رجاله عن أذى الناس" (30، 141). وينهي مفكرنا رؤيته إلى النهضة/ النهضات بقول غاية في الجرأة، هو ما يلي:
" ومتى تجرأ الإنسان أن يقف في وجه آلهته لم يبال بعد ذلك بالقيود بل سرعان ما يحطمها وينطلق حراً قد خلع عنه مأثور السلف وأخذ ينظر بعين النقد لكـل شيء" (30، 141).
إذن التصدي للآلهة بجراءة يشكل أساس الانطلاق والتحرر. أن مما يؤسف له أن مفكرنا لا يشفى غليل القارئ، ذلك لأنه اكتفى بقول ما تقدم، ولم يستطرد في كلامه. ولو فعل ذلك، لكنا عرفنا المزيد عما هو مسكوت عنه.
وينتقل مفكرنا إلى تقويم النهضة في مصر، والأقطار العربية، مقارناً إياها بالنهضة الأوروبية.
يقوّم س. موسى النهضة التي حققتها ثورة 1919، قائلاً أنها نهضة سياسية في المقام الأول، نظراً لأنها رمت إلى نيل الاستقلال فقط. وعلى الرغم من أن حوافز التحرير الاجتماعي، مثل تطور المرأة وتعليمها، والاتجاه إلى النهضة، لابستها إلاّ أن معنى النهضة كما يفهمها الأوروبي أفسدناه. لقد عرف الأوروبي من النهضة منذ بزوغها إلى القرن العشرين، "أنها تحرير الشخصية البشرية من التقاليد والغيبيات"، "وأنها فصل الدين عن الدولة. وأنها دعوة للإنسان كي يأخذ مصيره في يده، ويتسلط على القدر بدلاً من أن يخضع للقدر" (32، 182). وثمة أمور أخرى عرفها الأوروبي، لكن لا تعنيني.
إنه لواضح أن الإفساد لمعنى النهضة حدث جرّاء أنها كانت محدودة جداً، ولم تحقق ما حققته في أوروبا.
إن مفكرنا كان يتطلع، فيما تطلع إليه، إلى أن تحقق النهضة المصرية فصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، وهيمنة الإنسان على مصيره، وتحريره من القدر....الخ. ولماّ لم يتحقق أي هدف من هذه الأهداف، راح مفكرنا يقول إن المصريين افسدوا معناها. أما الهنود، برأيه، فقد فهموا معناها بصورة أوسع وأعمق من المصريين، وذلك بتحقيق مجموعة من التدابير، منها المساواة في الميراث بين الجنسين، وفصل الدين عن الدولة.
لم يكتف س. موسى بتوجيه النقد للنهضة المصرية، وحسب، بل نقد النهضة في الأقطار العربية كذلك، لأنها نهضة سياسية، لا أكثر، وشرط النهضة أن تكون أشمل من ذلك. ويهمني، في هذا السياق، لفت النظر إلى أن مفكرنا دعا إلى "إيجاد نظام لزواج مدني يعاقب فيه من يتزوج أكثر من امرأة واحدة.... ". والأهم من ذلك أن نظاماً كهذا يجيز "زواج الأفراد ولو اختلفوا ديناً". (47، 14).(1)
ولا يفوته أن يتصدى للحجاب داعياً، بقدر من التطرف، إلى معاقبة المرأة المتحجبة، وكتاب الصحف والمجلات إلى وجوب عدم إقدامهم على نشر دفاع عن الحجاب.
يتضح، مما سبق، أن سلامة موسى علماني بإمتياز، بل هو أكثر من ذلك. إنه من خلال النقد الذي يوجهه لنهضة عام 1919، وللنهضة العربية، ومن خلال المقارنة بين الفهمين المصري والهندي للنهضة، يدعو إلى أهداف معينة تدل، بجلاء، على أنه، فضلاً عما تقدم، يريد التحرر من التقاليد والغيبيات، وتحقيق مساواة كاملة بين الجنسين في شتى المجالات، بما فيها الإرث.
إن هذه الأهداف هي، على نحو من الأنحاء، جزء لا يتجزأ من العلمانية الراديكالية. هل معنى ذلك إن علمانيته كانت كذلك؟
الجواب عندي نعم.

الحجاب:
لم يجرؤ مفكرنا على تناول أي أمر من الأمور ذات الصلة بالإسلام، كما جرؤ على الحجاب. فقد عُني به منذ شبابه، وسلّط عليه شيئاً من الضوء في عدد من المواضيع في كتاباته.
يؤكد س. موسى أن أحد القصدين اللذين كان يحفزناه، من سنوات الشباب، عندما كان في أوروبا، هو "تحرير المرأة من الحجاب.." والحق أن من الآراء الجريئة التي تبناها رأيه المتمثل في توجيه النقد اللاذع لحجاب المرأة. واللافت للنظر أن هذا النقد وُجّه في وقت مبكر من وعيه، إذ ورد في أول إصدار لـه "مقدمة السبرمان"، وواصل مفكرنا هذا النقد، بدون كلل أو ملل، طوال حياته، وفي العديد من إصدارته. وإذا كان نقده للحجاب لاذعاً في باكورة إنتاجه، فإنه، فيما بعد، لم يكـن كذلك. ويلحظ القارئ هذا الفرق في أثناء إطلاعـه على إصـداره "المرأة ليست لعبة الرجل"، ولا سيمـا الصفحات التي أفردها لما يسميه "الأصـل البدائي للحجاب". ففي هذا الكتاب يوجه ألـذع نقـد للانفصـال، وبقـاء المـرأة في البيت، كما ينقد حق الطلاق، وتعدد الزوجات، مؤكداً أنهما " كارثة المجتمع المصري" (25، 126)، وإن المساواة بين الرجل والمرأة "سوف تتحقق بحرمان الرجل هذه الحقين" (25، 128).
أعود إلى الحجاب لأعرض رأيه فيه. إن مما لا شك فيه أن س. موسى بنقده اللاذع والجريء، إنما كان يتصدى لظاهرة تدافع عنها طائفة كبيرة جداً من علماء الدين، وكثرة من عامة الناس المسلمين. ومع أنه كان حريصاً على أن يكون بمنأى عن توجيه أي نقد للإسلام نفسه، إلاّ أنه كان، بين الفينة والأخرى، يتصدى لهذه الظاهرة أو تلك من الظواهر ذات الصلة بالإسلام على هذا النحو أو ذاك، ولا سيما في شبابه.
إن أي نصير للحجاب، إذا ما قرأ الصفحتين اللتين أفردهما، في خاتمة "مقدمة السبرمان" للمرأة المصرية، يمكن أن يذهب بعيداً في حكمه عليه، فيعده عدواً لدوداً للإسلام، بل قد يذهب أبعد من ذلك، فيعده مجدفاً أو زنديقاً.
إن أثر الحجاب في الأمة أثر سلبي بالغ للغاية. "فلو أن زلزالاً حدث في مصر وقتل نحو عشرة ملايين نفس، ولم يترك سوى مليون، لكان أثره في الأمة(1) من حيث ذكائها ونشاطها أقل جداً من أثر الحجاب" (24، 33). ويستطرد قائلاً إن كفاءاتها المرأة " الجسمية والعقلية" معطلة بسبب الحجاب منذ(2) آلف وثلاثماية سنة. (29، 23) ومما كان يعتقده، آنذاك، أن الزواج من أجنبيات يفيد الأمة، لأنه يعيد إلى النساء كفاآتها التي عطلها الحجاب، مؤكداً أن شيئاً من التضحية واجب، نظراً لأن المرأة المصرية ستتحمل أذى زواج كهذا.
هل ثمة ألذع من هذا النقد للحجاب؟
لا أعتقد ذلك.
ويتابع مفكرنا نقده اللاذع قائلاً إن الحجاب نزل "بالمرأة من مستوى الإنسان إلى حضيض الحيوان" بل " حيوان المغاور" (24، 33).
ويحمد س. موسى الأقدار لأن الحجاب لم يكن واسع الانتشار في الآمة، "فهو في المدن على أقساه، ولكنـه فـي الريف، وفي الطبقات الوضيعة، لا أثر لـه إلاّ في الاسم" (24، 34). وإذا كان المستوى الذهني للمصريين "أحط" مما هو عند الأمم الأخرى، "فإن هذا يعزى أكثره إلى حجاب المرأة" (23، 34).
وخلاصة القول: إن الحجاب، برأيه، لم يخلق للبيئة المصرية. وليس ثمة "عذر لنا في أن نبقيه في بلادنا دقيقه واحدة" (24، 34).
هل ثمة دعوة أكثر جراءة من هذه؟ وهل هناك نقد ألذع من هذا؟
لا أعتقد ذلك.
ومن الأهمية بمكان التعرف إلى رأي يبديه غالي شكري في " مقدمة السبرمان" مؤداه أننا "نلتقي وجهاً لوجه مع منهج في التفكير يغاير مناهج الفكر والحياة في مصر حينذاك" (5، 50). ورغم أن هذا المنهج يفترق، برأيه، إلى الوحدة والتكامل، إلاّ أن غ. شكري يرى فيه " جنيناً لمفكر ثائر على أوضاع غريبة معقدة في بلاده". (5، 50). ومن الجلي، مما سبق، أن الحجاب يمثّل وضعاً من الأوضاع السالفة الذكر.
والواقع أن "مقدمة السبرمان" كان س. موسى قد بعث بها من لندن إلى جرجي زيدان لنشرها في مجلة الهلال. ومما هو جدير بالذكر أن ج. زيدان نشرها، "بعد أن خفف كلماتها، وحذف بعض فقراتها الجريئة"، كما يقول محمـود الشرقاوي (1، 37). أمّا كمال عبد اللطيف فيذهب بعيداً جـداً في تقويمه للمقدمة، قائلاً إنهـا تضمنت "نفحه ملحدة" (2، 181)، "تجلت في تركيز سلامة موسى على انتقـادات نيتشه للمسيحية وتركيزه علـى ضـرورة تقويض العقائـد الغيبية" (2، 181).
إن المتمعن في "نيتشه والمسيحية" يجد أن س. موسى يقابل هذا بذاك، بل أن هذا ينقض ذاك. إنهما في تضاد. بيد أن اللافت للنظر أن مفكرنا يبدأ بعرض هذا التضاد، ليستند إليه في نقد المسيحية، داعياً إلى عدم الرحمة والشفقة، وتقديم الخد الأيسر لمن يضربنا على الخد، "لأن من يقول هذا ضعيف" (2، 181).
ولا يفوته أن ينقـد نيتشه، ذلك لأنه "يريد أن يعـود بنا إلى شريعة الغاب" (2، 14).
اضطررت إلى ما أسلفته لأقول إن ما تجلت فيه النفحة الملحدة للمقدمة ، كما ذهب ك. عبد اللطيف، لا يدل على ذلك، ولا يثبتها.

حرق الجثمان:
من مقالات س. موسى الممنوعة مقالة تحمل عنواناً يمكن أن يستفز أنصار الأديان السماوية، والعنوان هو: "أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي". وقد يكون المؤثر في هذا الطلب أو الالتماس أن برناردشو كان يؤثر الحرق على الدفن. ومن الجدير بالذكر أنه أقنع ويلز بالإقدام على حرق زوجته عندما توفيت. وكان شو نفسه أوصى بإحراق جثمانه بعد وفاته، كي لا "يجعل مـن الأرض مكـاناً للتعفن والنتن". (40، 112). أمّا مفكرنا فيقول إنه يميل إلى حرق جثمانه، ويؤثره "لجمال الفكرة في النار تحيل جسمي في دقائق إلى بخار ورماد بدلاً من.." (32، 34). ويذهب إلى وجوب نثر الرماد "كي نؤكد فكرة الفناء" (32، 35).
ويتابع س. موسى قائلاً إنه يؤثر المرمدة على الجبانه، "لأن الفناء بالنار أجمل من الفناء بالتعفن" (32، 35).
إن مما هو مؤكد أن الحرق، فكرةً وممارسةً، مرفوضة من قبل الأديان السماوية. بيد أنها تمارس من قبل الهندوس، وغيرهم، من مثل السوفيات قبل انهيار اتحادهم، وذلك بناء على وصيتهم. أما إذا أوصى السوفياتي السابق بغير ذلك، فإن الوصية تؤخذ بعين الحسبان. وفي مثل هذه الحالة يُدفن المُتوفى بمقتضى دينه. أمّا مفكرنا فقد "شذ" عن المألوف الديني، ورجا حرق جثمانه، الأمر الذي لم يُنفذ. ومما يستنتج من رجائه أنه لم يكن يؤمن بما يسمى دار البقاء. لقد حصر نفسه بدار الفناء وحسب. وخلاصة القول أن س. موسى لا يساوره شك في أن "الإحـراق خيـر مـن الـدفن. وهو نظافة وطهارة بالمقارنة إلى مـا في الدفن من قذارة ونجـاسة" (35، 217). هذا فضلاً عن ترشيد النفقات.

أتاتورك:
يبدي س. موسى إعجاباً شديداً بأتاتورك، ويشيد كثيراً بثورته التي يعدها أكبر من الثورات المألوفة، وذلك "لأنها لم تقتصر على التغيير في نظام الحكم، بل تجاورته إلى التغيير في المجتمع" (39، 106). لذلك يستطرد مفكرنا في شرح الأوضاع التي كانت سائدة، مؤكداً، باختصار شديد، إن الدولة التركية "كانت تحيا الحياة "الشرقية" (39، 106). وعندما يصف مفكرنا الحياة بأنها "شرقية"، فإنما يعني بذلك أنها حياة سلبية من شتى الوجوه.
والآن لنتعرف إلى أتاتورك العظيـم، بنظره، وذلك كمـا يظهـر فـي مـرآة سلامة مـوسى. لقد نهض بالشعب، "وأخرجه إلى القرن العشرين، إلى النهضة" (13، 113). إنه رجل عصري، يفهم الحضارة العصرية، وينشد "مجتمعاً عصرياً" (39، 108). ومن الإجراءات التي اتخذها، بعد خلع السلطان، مـن أجـل تغيير المجتمع التركي، إعلان الجمهورية، وفصل الدين عن الدولة، لأن الـدين "يفصل بين الحلال والحرام، وليس هذا موضوع السياسة للـدولة العصـرية" (39، 109).
إذن ما موضوعها؟ إنه "الصواب والخطأ، وهما يقرران الحق في المناقشة والرأي الحر" (39، 109). أما الحلال والحرام اللذان هما موضوع الدين، فإنهما يعلوان "على المناقشة والرأي الحر" (39، 109).
ومما أقدم أتاتورك عليه ألغاء المحاكم الشرعية، واعتماد الزواج المدني، وإلغاء المجالس الملية لغير المسلمين. وهكذا لم يعد في تركيا أمام الدولة "مسلم أو مسيحي أو يهودي أو ملحد، لأن الجميع أتراك فقط" (39، 109).
واضح من هذا الضوء الذي يسلطه س. موسى على الإجراءات التي اتخذه أتاتورك، أنه معجب بإقصاء الدين عن الدولة، وبأن ما يميز المواطن هو تركيته وحسب. أما الإيمان أو الإلحاد، فلا قيمة لهما. إن الأتراك، وبغض النظر عن دينهم، أو إلحادهم، متساوون قدام الدولة. وقد يطول بنا الأمر إذا عمدنا إلى عرض الإجراءات الأخرى التي ذكرها مفكرنا، لذلك نكتفي بما تقدم، لنخلص إلى أن إعجابه بالثورة التركية بلغ مبلغاً لم تبلغه أي ثورة أخرى. يقول مفكرنـا لـيس "في تاريخ العالم كله ثورة استوعبت كل هذا التغيير في نظامي الحكومة والمجتمع" (39، 111). وبفضل هذه الثورة أصبح الأتراك في كل شيء "أمة عصرية حرة"، تعيش بالعقل والرأي والمنطق" (39، 111).
إن ما يلفت النظر، ويسترعي الاهتمام هذا الإعجاب الذي ما بعده إعجاب في أتاتورك وإجراءاته. وإن دل ذلك على شيء، فإما يدل على أن منحاه في التكفير كان "غربياً" من جهة، وينطوي على قدر من المبالغة، من جهة أخرى. ويغلب على الظن أنه أراد أن يبين أن لفصل الدين عن الدولة آثاراً إيجابية عديدة. إنها دعوة إلى هذا الفصل، من جهة، وإبراز لمثاله، من جهة أخرى. والأهم، من جهة ثالثة، أن هذه الإجراءات تحققت في دولة مسلمة تجسدت فيها آخر خلافة. هلي يعني ذلك أن ثمة إمكانية لتحقيقها في دولة مماثلة؟
في اعتقادي أن الجواب عنده نعم.

النظر الذاتي والنظر الموضوعي:
يميز مفكرنا بين نظرين: النظر الذاتي والنظر الموضوعي. وعندما ينظر ذاتياً إلى الإسلام لا يجد "نصاً بالخلافة في القرآن" (30، 53). ولكن هذا النظر يخالف الواقع، برأيه، لأن الخلافة عاشت 1300 سنة تقريباً. وباعتباره، هنا، مؤرخاً يقرر الواقع، وينظر إليه، بموضوعيه، فإنه، لهذا السبب، يعد "الخلافة جزءاً من الإسلام" (30، 54)، كما يعد البابوية من أثر المسيحية، "وإن لم يكونا من أبنيه المسيح أو محمد" (30، 54).
ويتابع مفكرنا كلامه على مقام الخلافة في الإسلام، ومقام البابوية في المسيحية، فيقول إن ما يميز الإسلام، من سائر الأديان، أنه ليس لـه "كهنة سوى كاهن واحد هو الخليفة" (30، 66). ومهما حاول الكُتّاب جعل الخلافة منصباً مدنياً وحسب، فإن ذلك يخالف التاريخ، برأيه. إن الخليفة، في الواقع، "حاكم مدني وديني معاً" (30، 66). صحيح أن القرآن لم ينص على الخلافة، كما أن الإنجيل لم ينص على البابوية. والحقيقة، في نظره، أن الخلافة والبابوية "ترجعان إلىالتقاليد المأثورة" وحسب. (30، 67). ولا يعنيني، هنا، الاستطراد الذي ذهب إليه مفكرنا، مقارناً بين العهود التاريخية لتطبيق الإسلام. إن ما يلفت النظر، في هذه المقارنة، هـو إعجـابه بالعهـد الأموي، رغم أنه لا يظهره، بصورة مباشرة، وصريحة. يقـول إن الخلافة عندما انتقلت إلى الأمويين "زالت عنها المسحـة الدينية تقريباً مـع استثناء عمر بن عبد العزيز. وهي لـو استمرت في دولـة الأمويين لاقتصرت على الحكم المدني، وربـما كان اهتدى المسلمـون بالأمويين إلى نظام دستوري لحكمهم" (30، 68).
أهمية القرآن الكريم والإسلام:
بالنظر إلى أن المجتمع العربي قد نشأ، كما يقول، في حضن الثقافة العربية، ورضع من تقاليد الإسلام، فإن كل شاب مثقف مصري أو عربي، مسلم أو غير مسلم، "يحتاج إلى دراسة القرآن الكريم كي يفهـم الأصول التي بني عليها مجتمعنا" (42، 157).
وفي موضع آخر يقول س. موسى أن واجبا اقتـناء القرآن الكريم ليس ملقى على عاتق المسلم وحسب، بـل "واجب المسيحي أو اليهودي أو الملحد أيضاً" (42، 161)، باعتباره الأساس الذي بني عليه المجتمع العربي.
إن ما ذهب إليه س. موسى لم يعن، بأي حال من الأحوال، إقصاء دعوته إلى العلمانيه أو التخفيف من تشديده عليها. إنه إقراره بواقع الحال لا أكثر.
ومما يراه مفكرنا أن الثقافة العربية فيما بين سنة 700 و 1400 كانت أرقى بكثير من الثقافة الأوروبية. ومن الأسباب التي ربما أدت إلى هذا الرقي ما يلي:
1- "لم يكن عند العرب كهنة يستأثرون بالثقافة ويحدون من حرية الفكر، وإن كان كثير من الخلفاء العباسيين قد اصطنعوا حقوق الكهنة" (42، 159-160).
2- "بساطة الإسلام وخلوه من الارتباكات الغيبية جعلت المسلمين أكثر حرية في التفكير من الأوروبيين" (42، 160).
وثمة سببان آخران لست معنياً بهما.
واضح من هذا الرأي أن س. موسى يعزو الرقي الذي بلغته الثقافة العربية إلى الإسلام. وأبرز ما يميزه أن هذا الدين يدعو إلى حرية التفكير، وأيضاً خلوه مما يسميه "الارتباكات الغيبية". ومهما قيل في هذا الرأي، فإنه يدل على التقدير الكبير الذي يكنه س. موسى للإسلام.

كيف يُقرأ الإنجيل؟
يؤكد س. موسى أن الواقع الذي يثبته تاريخ أوروبا " إن كلما اقتربنا من الإنجيل، وحاولنا أن نفهم تعاليمه منه مباشرة، ونقرأه مثل أي كتاب آخر، كلما فعلنا ذلك، ابتعدنا عن الكنيسة، ونعني بالكنيسة هنا كهنتها" (34، 147)، ذلك لأن لهم تفسيرات "رسمية" له. هل يعني ما تقدم أننا مدعوون إلى قراءاتها كما يقرأ أي كتاب آخر غير مقدس، وبصورة مستقلة عن تفاسير علماء الدين؟ إن جواب س. موسى هو نعم. ويبدو أن ما يبتغيه هو القطع مع الكنيسة وآبائها، بهدف الاتصال المباشر بالإنجيل دون واسطة.

الغيبيات والعقائد والتقاليد…
من أكثر المفاهيم التي تتردد في كتابات س. موسى مفاهيم التقاليد والعقائد والغيبيات. يقول إن من الأفكار التي كانت تتبلور لديه فيما بين سنة 1909 وسنة 1914 "النفور من الغيبيات" (33، 194). وفي رأيه إن الغيبيات إذا ما دخلت في علم أو فلسفة، فإنها تفسدهما. (23، 42).
وينعت ما يقوله برجسون، بأنه "غيبيات" جديدة، وعبث في التفكير. ولكن ماذا قال هذا الفيلسوف؟ قال إن الحياة مبدأ أو عنصر أو فكره مستقلة عن المادة. وفي اعتقاده أن ذلك يمثّل ردة إلى أفلاطون، الذي كان يقول إن البياض سابق على الشيء الأبيض، وذو وجود مستقل. ويرد س. موسى على هذين الفيلسوفين بأن أقل ما يقال هو أننا لم نر سوى الأجسام الحية، ولم نر الحياة المجردة، ولا العقل المجرد.
يعتقد س. موسى أن البشر إحتاجوا إلى الإيمان بغيبيات تقوم مقام المنطق، منذ شرعوا في التفكير، معللاً ذلك بأنهم لم يرتقوا للاقتناع بالمنطق. لذلك آمنوا، برأيه، بما أسموه "ما وراء المادة". وثمة صلة يعقدها مفكرنا بين الغيبيات والعقائد، رغم أنه لا يبين أوجه الشبه، وأوجه الاختلاف بينها، قائلاً إن الناس، مهما يكن اختلافهم في الغيبيات، اجمعوا على اتخاذ عقائد تحقق لهم الطمأنينة، أو تكون بمثابة وسيلة للخير والعدل. ويعني بالعقائد ما يسميه "الفكريات الدينية".
إن نقص المعرفة، وبالتالي نقص المنطق، هما اللذان يسوقان البشر من وقت إلى آخر إلى الغيبيات. وبذلك يضعون فيها "البصيرة والحدس مكان التعقل والمعرفة" (27، 117). بعبارة أخرى: إن البشر يعتمدون العقائد لا الحقائق، يعتمدون البصيرة، لا المنطق. صفوه القول: إن التعويل على العقائد يفضي إلى غيبيات، أما التعويل على الحقائق، فيؤدي إلى معرفة.
أما التقاليد، فهي، برأيه، تعوق التطور. والمستفيد من جمود التقاليد، وسيطرة الأديان، على الشعوب، هو الاستعمار. وفي هذا المقام يقول س. موسى إن الأديان تعلم الشعوب أن "السعادة في عالم آخر، وليست في هذا العالم" (27، 24). هل يستنتج، من ذلك، أن مفكرنا لا ديني، بل ينكران تكون ثمة سعادة أخروية؟
الجواب عندي نعم.
ويزيد قائلاً إن الأديان المسيطرة تعلم الشعوب أن "العقيدة الدينية أهم من البترول" (27، 24).
وكثيراً ما كان يؤكد أن العيش يجب أن يكون بالحقائق والمعارف، "وليس بالعقائد" (39، 104). أمّا الأصل في التقاليد فهو "أنها عادات نشأت لمصلحة معينة، ثم تقادم الزمن فاشتبكت بالدين، وأصبحت لها حرمة ورعاية في النفس، فتحجرت، ولم يعد أحد يجرؤ على تنقيحها" (46، 56). ويتـابع قائـلاً إن تحجـرها يؤذي الأمة، لأن الحياة يجب أن تتحول وتتطور، ولا "تجمد وتتحجر بالتقاليد" (46، 56).
لقد غدت التقاليد عصية على التطور، منذ أن اشتبكت بالدين. لذلك، لا بد من القطيعة معها، إذا أردنا تحرير الأمة من أذاها.
وغالباً ما تصدى مفكرنا، فضلاً عن تصديه إلى العقائد والغيبيات، إلى الأساطير والخرافات. يقول، على سبيل المثال، الحصر، إن الغرض من إصدار مجلة المستقبل كان "مكافحة الخرافات الشرقية" (33، 341). وكانت هذه "المكافحة" نية مبيته لديه، ولدى شميّل. وربما يسأل سائل "من أين لـه هذا التصدي لكل ما تقدم؟ والجواب عنده أن نظرية التطور غرست في نفسه "مزاج الكفاح، لأنها تصدت للعقائد والتقاليد" (33، 176).
ويواصل تصديه للغيبيات، بتوجيه النقد لما يسميه الرجعية الدينيه. يؤكد س. موسى أن ثمة ضربين من الرجعية، هما: الرجعية الوطنية والرجعية الدينية. وكما يتصدى للأولى لأنها تتحالف مع الاستعمار، يتصدى للثانية لأنها " هي خير ما يدعو إلى الاستعمار" أيضاً. (39، 140). ويفسر الرجعية الدينية بأن علماء الدين، إذ ينفصلوا عن الشعب، ويتجهوا بالدراسة إلى "الغيبيات دون الدنيويات، يوجهون الثقافة وجهه بعيده منفصلة عن تطور الشعب" (39، 140). وهذا، برأيه، هو الوسط الذي يستطيع الاستعمار "أن يزكو فيه ويستفحل" (39، 140).
وقد يخطر بالبال السؤال الآتي: هل ثمة تقدمية دينيه تواجه أو تصارع الرجعية الدينية، وتضطلع بأدوار أخرى تختلف عن الأدوار التي تؤديها الرجعية الدينية؟ لا يجد القاري في كتابات س. موسى أي كلام عن تقدمية دينية كهذه. وربما غيابها عن كتاباته يعني أنه لم ير سوى الرجعية الدينية. وفي اعتقادي أن التقدمية الدينية، أعني رجال الدين، والمتدينين، المستنيرين، موجودة. صحيح أنهم في المجتمع العربي ليسوا بكثيرين، الأمر الذي لا ينبغي أن ينفي دورهم. وقد شاركوا، ولا يزالوا يشاركون، في شتى أشكال النضال ضد الاستعمار، وفي التصدي للفقه والفكر الإسلاميين المورثين. ويضيق مجال القول عن الإفاضة، لأنني غير معني بذلك، في هذا البحث.
أمّا الرجعية نفسها، فهي، في نظره، دعوة إلى حل المشكلات الاجتماعية "بالعقائد الجامدة الموروثة، بدلاً من التفكير الحر المبتكر" (42، 38). ويذهب مفكرنا إلى أن الرجعي "يلجأ عادة إلى الدين.." (42، 38). ويزيد قائلاً إن رجال الدين، في أغلب الحالات، رجعيون.
إن الرجعية في الشرق، في نظر أبنائها، لا تقل في استبدادها عن استعمار الغرب لهم، "بل هي أحياناً أسوأ و أتعس" (42، 42).
هكذا يلحظ الدارس أن س. موسى لم يلتفت إلاّ إلى ما يسميه الرجعية الدينية، غاضاً النظر عن ما يمكن أن يُسمى بالتقدمية الدينية.
حاول مفكرنا تحليل النظر أو النظرة الغيبية، قائلاً إن العقائد، لا العقل، هي التي تبررها. والمؤلف الذي ينظر على هذا النحو، يرى أو يشعر، "بقوة خلف الظواهر الطبيعية". "وهذه القوة لا تنزل على أصول العقل" (31، 25).
إذن مؤلف كهذا، أو المؤلف الغيبي، يؤمن بما وراء المدرك الحسي، وإيمان كهذا لا يمكن تسويغه عقلياً. هذا النمط من التفكير كان السمة الغالبة، برأيه، في القرون الوسطى. ويدلل على ذلك بأن الفلسفة أصبحت غيبيات "غايتها إثبات حقائق الدين ورواية الرسل" (31، 38). بعبارة أخرى له: لقد غدت لاهوتاً.
ورغم إعجابه بالشك الديكارتي، باعتباره شكاً منهجياً أو منظماً، إلاّ أن ديكارت لم يسلم من نقده، ذلك لأن تفكيره انطوى، برأيه، على "كثير من الغيبيات". ومن الأمثلة على هذه الغيببات أن الله "روح غير مخلوق" (31، 67).
لا يكتفي س. موسى بتوجيه النقد لديكارت وحسب، بل يوجهه للفلسفة عموماً، قائلاً إنها، قديماً، كانت " تحطم نفسها على صخرة الغيبيات" (31، 88). والسؤال الذي يبرز، على الفور، هو: ما هذه الغيبيات؟
أنها تتجسد في الأسئلة التي كانت تطرحها من مثل: ماذا بعد الموت؟ وماذا وراء الكون؟ وماذا وراء المادة؟ وما شابه ذلك من أسئلة. وفي اعتقاده أن أحداً من الفلاسفة لم يستطع أن يقدم أجوبة حاسمة. لذلك انتهت الفلسفة، في عصرنا، إلى تركها نهائياً، وصارت تعنى بالحياة. ويؤكد س. موسى أنه لم يعد يهتم بهذه الأسئلة التي كان يسألها الرهبان، قائلاً أنه يجيب عنها كما أجاب ابن رشد: لا أدري. وعلى الرغم من أن جوابه لا أدري، إلاّ أن التقويم الإجمالي لرؤيته يتمثل في أنه كذلك. وعندما يجيب على هذا النحو، إنما " يتهرب"، برأيي، من الإجابات التي يميل إليها أو يرجحها. إنها أسئلة تثير الأجوبة المباشرة عنها ما تثير من ردود الفعل، أقلها الاتهام بالزندقة والتجديف. وثمة وقائع حدثت في تاريخ حياته علمته الحذر الشديد، والالتفاف على الأجوبة الصريحة. منها، على سبيل المثال لا الحصر، واقعتا "في الشعر الجاهلي" " للدكتور طه حسين، "والإسلام وأصول الحكم" للشيح علي عبد الرازق.
لست، في هذا المقام، بصدد ما كانت عليه الفلسفة، وما آلت إليه. إن اعتبار الأسئلة السالفة الذكر غيبيات، يدل على المنحى الذي ينحوه مفكرنا، وهو منحى، لا ديني، على الأقل، وربما أكثر من ذلك. إن الفلسفة، بنظره، غير مدعوه إلى العناية بما وراء الموت. إن مما لا شك فيه أن الأديان السماوية تعنى، بهذا الموضوع. فضلاً عن عنايتها بمواضيع أخرى. وإذا كان الموت، بمعنى من المعاني، موضوعاً من مواضيع الفلسفة، ولا سيما الفلسفة الوجودية، فإن ما بعد الموت موضوع يشغل الأديان السماوية، ولا سيما الإسلام، ويشغل فقهاء هذا الدين منذ أمد بعيد. والواقع أنه موضوع يكثر الكلام عليه في الوقت الراهن.
ويخلص س. موسى إلـى أن الفلسفة، بهجرها الغيبيات، جعلتنا "أسعد حالاً" (31، 89)، مما كنا فيه.
ويمضي مفكرنا قُدماً في تصديه للغيبيات، وذلك بتسليط بعض الضوء على ما يسميه القرون الغيبة في أوربا، منتهياً إلى سؤال يطرحه حول الأحوال السائدة في الوطن العربي.

القرون الغيبية في أوروبا:
ساد، ما بين سنة 500 وسنة 1000، ظلام حالك في أوربا. وفي نظره أنه كذلك، لأن الثقافة كانت وقفاً على الرهبان الذين كانوا "يبحثون العقـائد لا الحقائق" (31، 7). لقد سادت، وفي تلك القرون العقائد على المعارف، وأُكتفي بالثقافة الدينية، والدولة الدينية. وكل هذا يؤدي، برأيه، إلى سيادة الرجعية.
إن من الآراء التي تتسم بالجرأة، رأيه فيما يسميه الانحطاط، الذي ساد زمن القرون الوسطى، أو القرون المظلمة، أو القرون الغيبية. إنه، أي الانحطاط(1)، يتجلى في الالتفات إلى الدين والغيبيات، وشؤون العالم الأخروي. إنه يتجسد في تحول الثقافة من الاهتمام بما يسميه "البشرية والمادة، أي خدمة البشر ومعالجة المادة" إلى "الدينية أي خدمة الدين والغيبيات" (31، 21).
وبالنظر إلى أن النهضة نقيض الانحطاط، فإنها تقوم على حركات بشرية، وترمي إلى تحقيق أهداف دنيوية وحسب. أنها تنظر إلى "هذه الدنيا كأنها الفانية التي ليس وراءها غاية تخدم" (31، 21).
هل ثمة جرأة مماثلة يمكن أن نجدها لدى كثرة من المفكرين العرب، بل بعضهم على الأقل؟ أنها جرأة نادرة الحدوث. وهي واضحة تمام الوضوح، بأن الدنيا هي التي يتعين أن تعنينا، وليس ما هو أكثر منها، أو العالم الأول، عالم الإنسان الأرضي. لذلك، وفي ضوء هذا الفهم للنهضة والانحطاط، يؤكد أنه يجب ألاّ تمت الآداب والفلسفات والعلوم "بأي صلة إلى الغيبيات" (31، 21). زد على ذلك أن علينا الاعتماد على الذات في "تحقيق السعادة على هذه الأرض"، "و ألاّ نزهد عنها إيثاراً عليها للعالم الثاني.." (31، 21).
هل يعني ما تقدم أن مفكرنا ينكر وجود عالم آخر؟
الجواب عندي نعم. وليس هناك أي شك في ذلك، لأنه واضح أيمّا وضوح.
إن دعوته إلى القطيعة مع ثقافة الانحطاط، والتحول منها إلى ثقافة النهضة، إنما تعني القطيعة مع ما يسميه "النظرة الغيبية" أو "الدين والغيبيات"، والانتقال إلى "البشرية والمادية". والبشرية تعني أن الإنسان يجب أن يعتمد على نفسه في هذا العالم، ويعمل من أجل حضارته وسعادته، مسوّغاً ما يذهب إليه بأن ليس للإنسان في هذا الكون كله " ما يعتمد عليه سوى عقله. وليس له خلاف هذا العالم عالم آخر يمكنه أن يطمع في تحقيق سعادته فيه" (31، 23).
أعود لأؤكد أنه مفكرنا لم يعترف إلاّ بهذا العالم، وأنكر، بجرأة ما بعدها جرأة، وجود عالم آخر، الأمر الذي يعني أنه لم يكن علمانياً وحسب، بل أبعد من ذلك.
ويخلص س. موسى، مما سبق، إلى أن الانحطاط، أينما ساد، وبغض النظر عن زمانه أو مكانه، يعني "قصر الذهن البشري على خدمة " ما وراء المادة"، ونشدان السعادة والهناءة في غير هذه الأرض، والاقتصار من الفنون والعلوم على خدمة الآراء بل العقائد الدينية" (31، 23).
وإذا كان الانحطاط سمة القرون الوسطى في أوربا، فما هي سمة الحياة العربية الراهنة؟ هل يحيا العرب في نهضة أم في قرون وسطى؟
يجيب س. موسى بأننا ما زلنا إلى حد بعيد نحيا في ثقافة القرون الوسطى، وذلك لأننا "نؤثر العقائد على المعارف، والقديم على الجديد". (31، 114). وعلى الرغم من ذلك، فإن نور الفجر الجديد قد بزغ، بنظره. ولمّا كان العلم معارف، وليس عقائد، فإنه هو الذي مكّن الأوربيين من السيادة على غيرهم من الشعوب التي كانت "لا تزال تحيا بالعقائد دون المعارف" (31، 110).

هل يمكن أن نحيا بالعقل وحده؟
شدد س. موسى كثيراً على أهمية المعارف، واتخذ موقفاً سلبياً إزاء العقائد والتقاليد. والواقع أن المنحى العقلاني الذي نحاه، والثقافة العلمية التي اكتسبها، مكناه من التعويل على سلطة العقل. وفي معرض كلامه على سقراط، وإشادته بفلسفته، التي استندت إلى أنه "يجب أن نحيا وفقاً لمنطق العقل" (22، 265)، طرح س. موسى السؤال الآتي: "هل يمكن أن نحيا بالعقل وحده وبما نجمعه من معارف نرتبها ونستخلص منها منطقاً، ومبادئ وأسلوباً للعيش؟" (22، 266). ورغم أنه لم يجب، بصوره مباشرة، عن السؤال المطروح، إلاّ أن موقفه إزاء العقل هو من الوضوح، بحيث يمكن القول إنه عقلاني تماماً. وعلينا، بنظره، أن نعتمد على المعارف، لأن "العلم معارف يجمعها العقل" (22، 268). ومن العبـر أيضـاً أن لـنا "الحـق في أن نحيا وفق عقولنا، وليس وفـق تقاليدنا وعقائدنا الموروثة". (22، 269).
ويتابع قائلاً إننا في حاجة، من وقت إلى آخر، إلى "أن نجعل العقل فوق النقل" (38، 85). لماذا هذه الحاجة؟ لأن أوروبا ارتقت بذلك. أما الشرق فقد تأخر، لأنه عكس الآية، أي جعل النقل فوق العقل.
إن ما تقدم إن دل على شيء، فإنما يدل على أهمية العقل في نظره، من جهه، والدور الذي يمكن أن يضطلع به في ارتقاء الشرق، من جهة أخرى. أكثر من ذلك، إنه يؤكد، على نحو ما، أن أوروبا هي الأنموذج الذي ينبغي أن تحتذى.
القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون:
يثني س. موسى على القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من حيث أنهما كانا "عصر النقد للأديان"، كما كانا "عصر التسامح"، في أوروبا. لقد غدا من حق كل إنسان "أن يؤمن بما يشاء" (27، 22). لذلك لم يعد يخشى أحد التفكير في أصل الكون أو أصل الإنسان، لأن "الدين يقول بنص أو رواية أو أمر يجب أن نصدقها ونطيعها" (27، 22).
هذان القرنان يمثلان، بنظره، عصر حرية الاعتقاد، عصر التحرر، إلى حد ما، من سلطة الدين. لذلك لا غرابة في إبراز إعجابه بهما، وإطراء المديح عليهما. لقد حققا ما يصبو إليه، ويتطلع إلى تحقيقه.
إن "الحرية الفكرية" استقرت ورسخت في القرن التاسع عشر. وقد تأيدت هذه الحرية بثلاث نزعات اتسم بها القرن المذكور. وتعنيني، هنا، نزعتان ذات صلة بموضوع البحث. الأولى هي تمرد العمال في أوروبا، وتفشي النظر الثوري بينهم. وإذ تعدى هذا النظر أحوال معيشتهم إلى أحوال الضمير، فقد "نزعوا إلى الحرية في الدين" (30، 210). وفي اعتقاده أن المرء إذا نزع إلى الحرية في النظـر الاقتصادي أو الاجتماعي "فإنه لا بد نازع إلى الحرية في النظر الديني" (30، 210).
إذا كانت الحرية لا تتجزأ، فإن ما ذهب إليه مفكرنا صحيح. ولكن الواقع يدحض ذلك، إذ أن الحرية في المجال الديني تصعب ممارستها، إذا ما قورنت بالمجالين الاقتصادي والاجتماعي، بل هي أصعب ما يكون، من حيث الممارسة، نظراً لما قد يترتب عليها. وهذا الواقع، ليس واقع اليوم، بل الواقع في معظم الأزمان، والأماكن، ولا سيما منذ ظهور اليهودية، أعني بدء التوحيد الإلهي. أما النزعة الثانية، فهي "تحول درس كل الكتب المقدسة من الإيمان والتسليم إلى النقد والتمحيص...."(30، 211).
يعود س. موسى إلى القرن التاسع عشر في موضع آخر، فيقول إنه حافل بأسماء العلماء والفلاسفة الذين " حاولوا تفسير الكون بدون الرجوع إلـى العقائد.." (30، 213). كما أنه، تأسست، في أواخره، "جمعية الدهريين"(1) التي كانت تطبع كتباً علمية وتاريخية، "كلها في مقاومة الأديان" (30، 213). هذا، ما يهم س. موسى في القرن المذكور. أما القرن العشرون، فما أن حل "حتى أخذت أمم كثيرة تفصل الكنيسة عن الحكومة" (30، 214). ويبدو أنه ينقد ما فعلته فرنسا عند تطبيق العلمانية، قائلاً إنها عمدت إلى "الاضطهاد"، وذلك باستصفاء "أملاك الكنيسة، ومنع التعليم الديني في المدارس" (30، 214).
واللافت للنظر تقويمه للثورة الفرنسية عام 1789، إذ يقول إن فيها عقلاً وهوساً. ويعنيني الهوس، لأنه ذو صلة بموضوع البحث. والآن لنسأل عن الهوس في الثورة المذكورة أعلاه. إنه الغلو والشطط فيما يتصل بالدين. وقد تجسد، برأيه، في إلغاء التقويم المسيحي، وإحلال تقويم آخر محله، وإلغاء الأعياد المسيحية، وإلغاء عبادة الله، واختراع عبادة جديد "لربه الذهن".
إن الغلو والشطط، فيما فعلته الثورة الفرنسية، يرجعان "إلى ما لاقاه الفرنسيون قبيل الثورة من استبداد رجال الدين والحكومات" (30، 206). إذن هما من قبيل ردود الفعل لا أكثر.
كنت علّقت في موضع آخر على علمانيته، ناعتاً إياها بالراديكالية. أمّا ما ذهب إليه من نقد لعلمانية فرنسا، فإنه يدل على غير ذلك. وقد يُفسر هذا الاختلاف بأن س. موسى لم يكن منسجماً في فكره تمام الانسجام من ناحية، ومن ناحية أخرى، كان الواقع السائد يؤثر في ما ذهب إليه.

من هم قادة العالم وعظماؤه؟
قادة العالم الحقيقيون الذين يرسلون صوتهم إلينا عبر القرون، فنسمع لهم ونأتمر بأمرهم، هم، برأيه، "فلاسفته وعلماؤه" (30، 195). ولنا أن نسأل: هل قصد مفكرنا، بهذا الحكم، إلى إقصاء الأنبياء أم أنه سها عنهم؟
يتعذر الجواب بصورة محددة. ربما المقام هو الذي ساق إلى الاكتفاء بهاتين الفئتين، ذلك لأنه كان يتحدث عن فولتير.
لم يكتف س. موسى بالإشادة بدور الفلاسفة والعلماء وحسب، بل زاد عليهم الأدباء كذلك. فقد عظّم من شأن الكتب الأدبية والفلسفية، ونفى عن الكتب الدينية المقدسة احتواءها على قيم مهمة، وذلك بجراءة يندر أن نلحظها لدى غيره من الكتاب والمفكرين. فهو، عندما يفكر في "القيم الاجتماعية العصرية للكلمات المحورية التي يسترشد بها" المجتمع، في أوروبا، أو في مصر، يعني معاني الفضيلة والصلاح والشرف والمروءة والحرية والإخاء والمساواة ... الخ، يجد "أنهلا ليست من كلمات الأديان إذ لم ترد قط في كتاب ديني" (22، 254)، بل وردت في كتب الأدباء والفلاسفة. لذلك عنون س. موسى مقاله ب "كهنة من طراز جديد"، أو كما ورد في المقالة، "قديسون جدد". ومن هؤلاء الكهنة أو القديسون الجدد بروست، وسارتر، وشو، وفولتير، وبيرون، وداروين وفرويد ونيتشه.
وهؤلاء الأدباء والفلاسفة "لم ينقضوا الفضائل القديمة التي دعت إليها الأديان، ولكنهم أكملوها" (22، 256). لقـد أرادوا بهذه القيم الجـديدة خدمة المجتمع، وترقيـة البشـر، في عصر اختلف عن العصور التي "نشأت فيها الأديان" (22، 256).
ولماّ رأوا أن القيم الدينية "هي قيم أخروية، تدعو إلى صلاح الفرد، بالصوم والصلاة والتسليم بالعقائد، ونشدانه الخلاص الشخصي، عمدوا إلى إيجاد قيم أخروية دنيوية اجتماعية غايتها تكوين المجتمع الصالح" (22، 256).
وفي ضوء هذا التقدير العظيم للأدباء والفلاسفة، للكهنة أو القديسين الجدد، يوجب س. موسى اتساع معنى الدين عندنا، بحيث يدخل فيه هؤلاء، "ويكونوا من قديسيه" (22، 255).
ويخلص إلى أن الأدباء والفلاسفة "ينشدون القداسة في المجتمع، في كل فرد، وليس في معبد، وليس لشخص مفرد، وليس لأمة مفردة" (22، 256).
هل نخلص، مما سبق، إلى أن الأنبياء والرسل قد اضطلعوا بدورهم، وأدوا رسالتهم، وجاء الآن دور الأدباء والفلاسفة؟ هل يمكـن القول، أن عصرنا هو عصر هؤلاء، الذين "أحسوا التطور في المجتمع فدعوا إلى تطور في الفضائل والقيم" (22، 256).
الجواب عندي هو نعم.
ورغم هذا الرأي في الكتب الدينية، فإن لمفكرنا رأياً آخر مفاده أن الإنسانيين العظماء ينتمون إلى صنفين: الأول يحيا حياه الداعية المكافح الذي يحاول تغيير المجتمع البشري، فهو يكتب ويؤلف ويعمل ويغير. والأنبياء من هذا الصنف. أما الصنف الثاني، فهم الإنسانيون من غير الأنبياء، أو "بالأحرى هم طراز جديد من الأنبياء" (32، 5). ولا غرابة أن يكون ماركس واحداً منهم، ذلك لأنه "الأول" في تنويره وتثقيفه. (33، 338)، كما أنه "ليس في العالم من تأثر به، وتربى عليه، "مثل كارل ماركس" (33، 313).
يتضح، مما تقدم، أن مفكرنا لا يضع الأنبياء، في مرتبة خاصة، ولا يضفي عليهم هالة من التقديس. إنهم كغيرهم من الإنسانيين العظماء، بل هم طراز جديد من الأنبياء. وهكذا يمكن أن يكون شخص ما، من غير الأنبياء، إنسانياً.

الرجل المهذب والرجل الناضج:
سلّط س. موسى شيئاً من الضوء على رجلين هما الرجل الناضج والرجل المهذب أو العصري المثقف، ذاهباً إلى أن من خصائص الرجل المهذب، إذا كان عالياً في مزاجه التفكيري، أن يكون متديناً في مزاجه. بيد أن التدين كما يفهمه مفكرنا، يختلف عن التدين في معناه العام الشائع لدى الناس، وأخص بالذكر المتدينين منهم. فالتدين يتجسد لديه في حب "البشر"، والتماس " الخير لمستقبل الإنسانية". (22، 224).
إنه لواضع أن تديناً كهذا ليس بالتدين المألوف المتعارف عليه لدى المتدينين، الأمر الذي يعني أن سلوكاً كهذا لا يتعين أن ينعت بأنه متدين.
زد على ذلك أنه حدّد طائفة من العلامات التي تميز ما يسميه الرجل الناضج. ومن هـذه العلامات أنـه "يجمع معارفه واختباراته في فلسفه أو دين" (34، 35).
هل يعني ذلك أن ثمة مساواة بين الفلسفة والدين؟
قد يكون الجواب أن مفكرنا أراد بذلك منح الإنسان حق الاختيار بينهما. بيد أن ما يبعدنا عن هذا الجواب أن مفكرنا أكد أن الرجل الناضج "متدين. يحترم الحياة" (34، 35).
أين الفلسفة إذن؟
لماذا لم يقل أن الرجل الناضج متدين أو متفلسف. لو قال ذلك، لكان منسجماً مع ما ذهب إليه أعلاه.
وفي موضع آخر يقول إن الرجل الناضج هو الذي اختار ثقافة "أثمرت فيه ديانة بشرية أو عالمية" (36، 237) هي احترام الحياة. بعبارة أخرى إن الديانة تتمثل في احتــرام الكائنات الحية كلها، لأنها "حلقات منفصلة في سلسلة الحياة" (36، 237).
يتضح، الآن، أن التدين يعني احترام الحياة، وليس ذا صلة بالتدين المألوف. وليس نادراً أن يتحدث س. موسى عن الديانة البشرية لدى هذا أو ذاك من الأدباء أو المفكرين أو العلماء.. الخ. زد على ذلك أنه يتحدث عن ديانته البشرية كذلك. إن المتمعن في سمات الرجلين: المهذب والناضج يمكن أن يخلص إلى أنهما ليسا، من حيث الجوهر، اثنين، بل هما واحد بنعت آخر.
وفي معرض كلامه على الرجل العصري يقول إنه ذو سمات عديدة. إنه رجل جديد. ومن هذه السمات أنه يعتمد على المعارف العلمية بدلاً من العقائد الموروثة. أنه "يعرف ويجرب ولا يعتقد ويسلم" (42، 77).
صفوة القول: إن العقيدة تقوم على "التسليم"، أمّا المعرفة فتقوم على "البينة". (42، 59).
ثم يتكلم على الرجل المثقف فيؤكد أنه يحتاج إلى أن يدرس مجموعة من المواضيع، أحدها الاديان كلها ثم المذاهب الفلسفية الجديدة "التي تحاول أن تجعل المعرفة العلمية أساساً للإيمان بدلاً من العقيدة الموروثة" (42، 68).
هكذا هو الرجل المهذب أو الرجل العصري المثقف. ومهما اختلف نعت هذا عن ذاك، فإن المعرفة هي المبتغى،والعقيدة هي المقصية. ولنا أن نسأل، في ضوء ذلك، هل يختلف الرجل الناضج عن الرجل السابق؟ ما الذي يميزه؟

فولتير:
يؤكد مفكرنا، في سياق الثناء على الدور الذي اضطلع به فولتير، أن "اعتلاء الدين للدولة يضر الدين ويحطه، إذ يغنيه عن القوة الروحية والأخلاق السامية بما يستمتع به من قوة بوليسية وحماية قانونية. والدين يجب أن يتجرد من أي سلطان مادي، أي حكومي أو بوليسي، حتى يستنبط قواه الروحية المستقلة، ويصل إلى القلوب عفواً دون مساعدة خارجية" (34، 27).
إن ما تقدم يمثل، برأيه، المهمة التي علّمها فولتير لأوروبا، وهي "مهمة الحرية الفكرية، وفصل الدين من الدولة" (34، 27).
إذن الدين ينبغي أن يكون مستقلاً تمام الاستقلال عن الدولة، وعندئذ يستطيع أن ينفذ إلى القلوب. أما ارتباطه بها، فإنه يلحق الضرر به. إنها دعوة صريحة ومباشرة إلى أن يكون الدين بعيداً كل البعد عن الدولة. وفي هذا تتحقق مصلحته. وقد يبدو س. موسى فيما ذهب إليه، أنه حريص كل الحرص على نقاء الدين وصفائه. وقد يُظن عكس ذلك تماماً، أعني أنه حريص على أن تكون الدولة بمنأى عنه. ويتراءى إليّ أن حرصه على الدولة أشد بكثير جداً من حرصه على الدين. لقد بدا كلامه، وكأنه دفاع عن الدين، في حين أنه، برأيي، دفاع عن الدولة في وجه الدين.
ورغم إعجابه الشديد بفولتير الذي دعا، برأيه، إلى الاعتماد على الذهن البشري دون التقاليد، فإنه يعتقد أنه "بالغ في حملته على الأديان" (31، 88). وهذه الحملة كانت ذات فوائد، بنظره. فقد كانت من الأسباب التي بعثت على دراسة الأديان القديمة والحديثة، والاهتداء إلى الكشف عن كثير من الأسرار والعقائد. ويعزو س. موسى الفضل له في نشأة ما يسمى الأديان المقارنة.

تولستوي:
أعجب س. موسى بالأدباء الروس الذين أبدعوا في القرن التاسع عشر إيما إعجاب، وتواصل إعجابه بأدب القرن العشرين، وعلى وجه التخصيص أدب مكسيم غوركي. ولا يعنيني هنا هذا الإعجاب، في حد ذاته، إنما الذي يعنيني ما له صلة بموضوع البحث. ومن الأدباء الذين أعجب بهم تولستوي، ولا سيما بـ "أنا كارنينا" التي هي "في الذروة من الفن" (34، 123). ومما أسهم في هذا الإعجاب أخطاء تولستوي، والمشاكل التي تورط فيها. وعلى الرغم من أن مؤلفاته كانت "إيحاء للثورة" (34، 137)، وهنا، في هذا المقام، يعد ناجحاً، فإنه فشل من حيث أنه "كان يعتقد الاعتقاد الديني بأن إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع". ويخلص مفكرنا إلى أن تولستوي كان، في ذلك، "مثالياً ولم يكن مادياً" (34، 137).
يذكر سلامة موسى ما استخلصه تولستوي من موعظة الجبل في الإنجيل، من وصايا، مؤكداً أنه لم يجابه كل الحقائق، "ولو كان قد فعل لاستقر على العلم وحده" (34، 149).
هل عدم الاستقرار هذا يدل على مثاليته؟
لا ريب في ذلك.
تتضح، مما تقدم، المرجعية التي يستند إليها س. موسى، وألتي أوجبت توجيه النقد التولستوي، رغم إعجابه به، إنها مرجعية تتكون، مما تتكون منه، العلم، وهي مرجعية، مادية، في جوهرها.
وتتجلى هذه المادية في أكثر من فهم من أفهامه. ومن هذه الأفهام فهمه للحياة. فما الحياة عنده؟
إنها "إحدى ظواهر المادة". وهي في حركة وتحول أبديين. ويعود الفضل في هذا الفهم إلى نظرية التطور. وإذا كانت الحياة، بنظره، " خاصة من خواص المادة" (23، 37)، "إحدى ظواهر المادة" (27، 151)، فإن العقل هو "خاصة من خواص الحياة". (23، 37)، أو "ظاهرة من ظواهر الحياة" (27/ 151).
ويتابع قائلاً إن الحياة كامنة في المادة، وتنشأ منها. وكذلك العقل كامن في الحياة، وينشأ منها. وما تقدم يتيح لسلامه موسى أن يقول إن "العقل كامن في المادة" (27، 152). لذلك لا يعرف مفكرنا، في ضوء هذا الفهم للعقل والحياة والمادة، حياة مطلقة بلا مادة، كما لا يعرف عقلاً مطلقاً بلا حياة. (27، 152).

دوستويفسكي وتولستوي إزاء الموت:
يُعلّق س. موسى على وقوف دوستويفسكي أمام الجنود بانتظار الموت، قائلاً إنه بقي طوال عمره، بعد ذلك، ينظر إلى الحياة من موقف الموت. ويضيف، وهذا ما يعنيني، ما يلي: "وأكاد هنا أقول إن الدين ليس شيئاً آخر سوى النظر إلى الحياة من موقف الموت". ويزيد قائلاً إن الموت " أكبر حقيقة بشرية" (34، 118). إنه "من أعظم الحقائق التي تواجهنا عندما نفكر في الحياة البشرية" (34، 149). وهو، عندما يتأمله، يجد أنه يغيّر القيم والأوزان، ويحيلها من التقدير الاجتماعي إلى التقدير البشري. وفي أثناء "هرولة الحياة الاجتماعية" تنقدح فجأة، في أذهاننا "فكرة الموت".
إن تأمل حقيقة الموت هو "كشف ديني" (34، 119). كأني ـ حين أوقن أني في أحد "اللحظات سأفارق هذا العالم فلا يبقى لي فيه جسم أو اسم أو ذكرى.."، لا أسال إلا عن الميزات الإنسانية لهذا أو ذاك من الرجال.
ويهمني أن أنهى ما تقدم بأن مفكرنا خلص، مما سبق، إلى أن "يقيننا بالانعدام بعد الموت يزيدنا وجداناً بالحياة" (34، 119).
إلا يُعني ما خلص إليه س. موسى أنه يعد الموت خاتمة الإنسان؟
ما من ريب في ذلك. ويعود إلى الموت في أثناء كلامه على تولستوي، قائلاً إنه نظر إليه من حيث أنه مواجهه العدم للإنسان، وأنه نهائي ليست بعده حياة أخرى. ويرى س. موسى أن عبره الموت يجب أن تنعكس على الحياة. "إذ ما دامت الحياة تنتهي بالموت انتهاء تاماً" (34، 151)، فلا بد، لذلك، من أن نحيا "حياتنا بـأقصـى وأعمـق ما نستطيع، وأن نجعل مـن هذه الدنيا نعيماً لأبناء البشر" (34، 151)، "ونتحمل نحن وحدنا المسئولية في كل ذلك بدلاً من إلقاء المسئولية على قوات غيبية" (34، 151). وفي تقويم مفكرنا لتولستوي أنه لم يُفكّر على هذا النحو، لأنه "لم يكن ثورياً" (34، 151)، مؤكداّ أن الثورة هي التي تنقلنا إلى "التفكير في الدنيا" (34، 151).
لا يحتاج هذا الكلام إلى تعليق، ذلك لأنه واضح تمام الوضوح، ويدل، بجلاء ما بعده جلاء، على أن مفكرنا ينكر العالم الآخر. ويوجه، بهذا الخصوص، النقد لتولستوى، لأنه لم يكن قد ذهب هذا المذهب. ويعلل ذلك بأنه لم يكن ثورياً. إن الثورة وحدها، أي السعي لتغيير المجتمع، "هي التي نقلت الاهتمام النفسي والذهني من التفكير في الدين إلى التفكير في الدنيا" (34، 151).

خاتمة:
ربما يطرح قارئ أو أكثر، بعد أن يفرغ من قراءة هذا البحث، السؤال الآتي: هل يمكن إعداد بحث قد يبدو، في نظر البعض، طويلاً عن موضوع كهذا، وليس بين مؤلفات س. موسى العديدة، مُؤلف قد أُفرد للدين؟ الجواب عندي هو نعم، ذلك لأن هذا الموضوع كان هاجساً من هواجسه، بحيث سلّط عليه شيئاً من الضوء في العديد من كتاباته، وأقواله، وأحاديثه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يصعب النظر في هذا الموضوع، عندما لا يُفرد لـه كتاب خاص. وقد حاولت استقصاء ما قاله، بهذا الخصوص، في الكثرة الكاثرة من كتاباته.
ومن حق القارئ أن يقوّم هذه المحاولة، بل أدعوه إلى ذلك. زد على ما سبق أن عدداً من القراء قد يذهب إلى أن مفكرنا لم يكن علمانياً وحسب، بل كان أبعد من ذلك. نعم لقد كان أقرب إلى الإلحاد. وثمة آراء عديده تبناها س. موسى تدل بوضوح ما بعده وضوح على أن علمانيته كانت مجرد غطاء لإلحاده، أو ماديته. بيد أن ما يلحظه القارئ المتخصص في الفلسفة أن هذا الإلحاد أو هذه المادية لم تكن محكمة البناء، أو بعبارة أخرى لم تشكل منظومة أو نسقاً. وفي أعتقادي أن مرد ذلك يكمن في أن مفكرنا لم يكن مؤهلاً، من الناحية الفلسفية، من جهه، ومن جهة أخرى، لم يكن حريصاً على إبراز إلحاده أو ماديته في صورة مكتملة، كي لا يدفع الثمن غالياً.
لا أود أن ألخص، في هذه الخاتمة، البحث، أكتفي قائلاً إن موضوعه لم يُطرق، من قبل، بهذه الشمولية. لذلك أدعو القارئ المعني بفكر سلامة موسى إلى الحكم على هذا البحث، من هذه الزاوية. وفي اعتقادي أنه يضيف جديداً إلى ما كُتب عن مفكرنا. إنه إسهام أُعد بموضوعية وتعاطف في آن معاً. ولولا إعجابي به، لما أعددت هذا البحث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بالزوار الجدد

الجديد هيلاقي اسمه اول اسم فى القايمه بلون اخضر يضغط عليه كليك ويغيره ويكتب اسم مستعار وكمان يقدر يغير الصورة

اعـــــــز اصحـــــــــاب

شااااااااااااااهد جميع المباريات على قناة الجزيرة

اجمل صور

اجمل صور
شاهد ارق الصور