برامج اصدقاء العاب ابحاث مشكلات دردشه كل ما هو جديدفى عالم الموضه الازياء الجمال

الاثنين، 27 يوليو 2009

علاقة الانسان بالكون 1

مقدمة: ولد محمد إقبال عام 1873 في إقليم البنجاب بالهند. درس وتعلم في أول حياته في مكتب تحفيظ القرآن الكريم ثم التحق بالمدرسة والثانوية والكلية في "سيالكوت" بالبنجاب ، ثم انتقل إلى لاهور حيث التحق بكلية الحكومة هناك حيث درس الفلسفة على يد المستشرق "توماس أرنولد". وفي تلك الكلية نال إقبال شهادة في الفلسفة.

قام إقبال بجولة في أروبا ما بين 1905-1908، وقد مكنه أستاذه أرنولد من التدريس مدة ستة أشهر في جامعة كمبردج مما مكنه من الاحتكاك برجال الفكر والأدب في أوروبا. وفي جامعة كمبرج نال إقبال شهادة في فلسفة الأخلاق ثم سافر إلى ألمانيا حيث نال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونيخ ثم عاد إلى لندن لينال شهادة في "المحاماة" من جامعة لندن.

استغرقت رحلة إقبال في الغرب 3 سنوات إذ عاد إلى بلاده عام 1908 حيث اشتغل كمرشد قانوني حر إلى جانب نشاطه العلمي والدعوي. زار إقلال عدة بلدان عربية من بينها مصر وفلسطين والسعودية. وفي أبريل 1938 أسلم إقبال الروح إلى بارئها.

يعتبر إقبال شاعرا وفيلسوفا مسلما عبر عن أفكاره وتصوراته في عدة كتب ودواوين. ومن أشهر كتبه كتاب "تجديد الفكر الديني"، ومن أهم دواوينه: "أسرار خودي" و "جاويدنامه".

- إقبال و "البشرية":

اهتم إقبال بالإنسان وبالبشرية جمعاء، ولم يقصر همه على الإنسان كفرد أو على الإنسان المسلم فقط؛ ولذا فقد حرص على دراسة مشكلات المسلم كما درس الحضارة الغربية وما قدمته للبشرية جمعاء، وما تعانيه هذه الحضارة من مشكلات؛ فأصدر حكمه على هذه الحضارة بأنها حضارة: "سوف تقتل نفسها بخنجرها…إن العش لا يثبت على غصن رطيب ضعيف مضطرب".

- الإنسان الكامل عند إقبال:

زعم الدكتور علي حسون (1985) أن للفكر الصوفي كما ظهر عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي وجلال الدين الرومي أثرا في فكر إقبال وتصوره للإنسان الكامل. وزعم أيضا أن هذا التأثير قد تجلى في قول إقبال بأن الذات أصل الوجود وسره، ونظام هذا العالم، وماهية الذات واحدة وإن تعددت أشكالها. وهي تنبعث وتثور، وتضيء وتختفي، وتقتل وتموت وتنبت. وهي أيضا مصدر هذا العالم ومصدر قوته…مظهر قوتها عشق الكمال الذي يسحر العالم إذا ما استولى على القلب.

وفي هذا الرأي مغالطة؛ إذ أن إقبال وإن كان يرى بأن الهدف الأسمى للذات في هذه الدنيا هو خلافة الله في الأرض بعد المرور بمراحل من العمل والكفاح إلا أن المقصد الأسمى للذات في العالم الآخر هو رؤية الذات الإلهية. ولا يبدو أن إقبال من المؤمنين بوحدة الوجود وإن كان من المؤمنين بخلود الذات. ومما يعزز هذا الموقف ما زعمه الكاتب نفسه (حسون) عن العناصر التي يجب أن تتوفر في مسيرة الذات الإنسانية التي تنشد مقام (الإنسان الكامل)؛ وهذه العناصر هي:

1- الحركة والجهاد المستمر.

2- العمل وتدبير المعيشة.

3- طرد الخوف.

ومما يدحض قول الكاتب ما أورده نفسه عن رأي إقبال في الوعاظ والمتصوفة حيث قال إقبال عنهم: "إننا نرى كعبتنا مليئة بالأصنام، والكفر يضحك من الإسلام، وشيخنا من عشقه للأصنام قامر بالإسلام، وغفل عن حاجات أمة الإسلام، أما الوعاظ والمتصوفة، فأضاعوا حرمة الملة البيضاء، وعبدوا المناصب، وتاجروا بالفتاوى، ليكونوا سدنة بيوت الأصنام" (ص79).

ومما يدحض هذا الرأي أيضا ما أورده الكيلاني (1959) عن رد إقبال على أصحاب مذهب "وحدة الوجود" الذين لا يؤمنون بالفردية ويرون بأن كل الكائنات وحدة واحدة مرتبطة مع بعض، وغاية الإنسان الإندماج الكلي في الوجود، كما تندمج القطرة في البحر المحيط. وكان رد إقبال على هذا الزعم بقوله: "لا…بل هذا الزعم هو عين الوهم وعين الخيال والضياع!" وبقوله: "إن هذا الظن مدعاة لذوبان "الشخصية" وانهيار "الذات"، وخمود الحياة وخمولها، وأساس الضعف والوهن، والأرزاء التي اجتاحت الأمة وبدلت حالها! إن كل إنسان له كيان ووجود وشخصية قائمة بذاتها، ومميزة عن غيرها تمييزا جليا واضحا…

ألا ترون أن الله واحد وإن اتصف بكل كمال وتنزه عن كل نقص؟

ألا ترون أن الكائنات -أي هذا الوجود بما فيه- مجموعة من الفرديات المتباينة ذات الخصائص المعينة، فهنا أشجار ونبات، وهناك طيور وحيوانات، والأشجار فيها الخوخ والحنطة والصفصاف، بل إن النوع الواحد تختلف أفراده في صفاتها…انظروا إلى الإنسان -هذا أسود وذاك أصفر، وهذا سقيم وذاك سليم!

ونحن دائما في حاجة إلى الكفاح والسعي المتصل في طريقنا إلى الكمال المنشود والمثل العليا المرسومة، وهذا السعي وهذا الكفاح هما عمل الكائنات، وعمل الأجيال المتلاحقة، وكل جيل عبارة عن حلقة من حلقات نضالنا في سبيل الوصول للكمال، فعمل الكائنات إذا مستمر متصل ""لامتناه" -فالكائنات إذا حقيقة غير كاملة…".

وتبدو القراءة السطحية لأشعار وأفكار إقبال وكأنه يؤمن بوحدة الوجود؛ وذلك لتأثره الكبير بأفكار الصوفي الكبير جلال الدين الرومي بل ودفاعه عن الحلاج في كتابه "تجديد الفكر الديني" حيث يقول: "ولكن مجموعة نصوص الحلاج التي جمعها ونشرها ماسينيون لا تدع مجالا للشك في أن الولي الشهيد لم يكن يقصد من عبارته (أنا الحق) أن ينكر على الله صفة التنزيه. والتفسير الصحيح لتجربته إذن ليس هو أن الفطرة تنزلق في البحر، ولكنه إدراك لحقيقة النفس الإنسانية وتأكيد جريء لدوامها في شخصية أعمق، بعبارة قوية باقية على الدهر".

وعلاوة على هذا، فإن إقبال ينقل أيضا قول جلال الدين الرومي ويعلق عليه: "أفاد جسمي وجوده من الروح، ولم تفد الروح وجودها من البدن. لقد سكرت الكأس من الروح، ولم تسكر الروح من الكأس، فالحقيقة روحية في جوهرها، ولكن الروح لها بالطبع درجات…وكل ذرة من ذرات القوة الإلهية، هي روح أو ذات مهما ضؤلت في ميزان الوجود، على أن هناك درجات في تجلي الروحية أو الذاتية وتجلي هذه الروحية يرتقي في سلم الوجود درجة إلى أن يبلغ كماله في الإنسان، وهذا السر في تصريح القرآن أن الله أو الذات القصوى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد" (ص85).

ولكن المتمعن في أفكار إقبال يلاحظ أنه يؤكد قصور النفس، وسعيها الدائب لتحقيق التكامل أو الكمال النسبي. وفي هذا المعنى يتحدث إقبال عن وجود النفس وقصورها في تفسير الحقائق على ضوء تجربتها الداخلية فقط، كما يؤكد بأن البشر ينتسبون بحكم وظائفهم إلى حركة كونية قائمة بذاتها. وأحوال معيشتهم خارجية عنهم في جملتها، ونوع الحياة الوحيد الذي يعرفونه هو الرغبة، أو الطلب، أو الفشل، أو النجاح، أي تغير مستمر من موقف إلى آخر.

والحياة حسب رأي إقبال: "تغير، والتغير معناه أساسا النقص. وإذا كانت تجربتنا الشعورية في الوقت نفسه هي نقطة البدء لكل معرفة فإنا لا نستطيع أن نتجنب القصور في تفسير الحقائق على ضوء تجربتنا الداخلية ذاتها، وتصور الذات الإلهية متصفة بصفات البشر أمر لا مفر منه وبخاصة في فهم الحياة، لأن الحياة لا يمكن فهمها إلا من داخل النفس".

ورغم تأكيد إقبال على أهمية التجربة الداخلية في تحصيل المعرفة في عدة مواضع من كتابه "تجديد الفكر الديني" فإنه لا يغفل بتاتا الأساليب الأخرى في تحصيل المعرفة كما سنرى ذلك عندما نتحدث عن الجانب العقلي عند الإنسان بالإضافة إلى الجوانب الروحية والجسمية والوجدانية والسلوكية كما تصورها إقبال.

ومما يدعم ما ذهبنا إليه من عدم إيمان إقبال بالإنسان الكامل -كما جاء عند أصحاب وحدة الوجود- هو إيمانه بضرورة التمييز بين الذات وغير الذات، بين "الأنا" و "الآخر". فأولا، يؤكد إقبال "وجود النفس" حيث يرى بأن النفس الملهمة بالعلم هي التي تستطيع أن تستولي على الجمهرة المتكاثرة للديمومة المتجزئة إلى ما لا يتناهى من اللحظات، وتحيلها إلى مركب متكامل الوحدة. ووجودك في ديمومة بحتة معناه أن تكون نفسا. وكونك نفسا يقتضي أن تكون قادرا على أن تقول "إني" أو "أنا موجود" ولا أحد سوى من يوجد حقا يستطيع أن يقول "إني" أو "أنا موجود". وثانيا، يلح إقبال على أن "الإنية (الذات) تتوقف على غيرنا وتقوم على التمييز بين الذات وغير الذات".

ويتضح موقف إقبال في إيمانه بالكمال النسبي بدلا من الكمال المطلق للإنسان عندما يتعرض لطبيعة الذات التي يعرفها بقوله "وطبيعة الذات هي بحيث إنها على الرغم من قدرتها على الإستجابة إلى الذوات الأخرى، فإنها متمركزة حول نفسها، ولها دائرة من الفردية خاصة بها تستبعد ما عداها من الذوات الأخرى. وهذا وحده هو الذي يؤلف حقيقتها بوصفها ذاتا. وعلى هذا، فإن الإنسان، وقد بلغت ذاتيته كمالها النسبي له مكان حقيقي في صميم القدرة الإلهية الخالقة، وبهذا تكون حقيقته أعلى بكثير من حقيقة ما يحيط به من الأشياء، وهو وحده، دون سائر مخلوقات الله قادر أن يشعر بنصيبه الذي يتجلى في وجود مبدعه الخلاق. وإذ قد وهبه الله القدرة على تخيل عالم أفضل، وعلى تحويل ماهو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، فإن النفس التي ينطوي عليها -لكي تحقق فرديتها التي ما تبرح تزداد حدة وشمولا- تستخدم جميع البيئات المختلفة التي تدعوه الحاجة إلى العيش فيها خلال تاريخ لا نهاية له".

ولفهم فلسفة إقبال الخاصة بالإنسان، نستعرض فيما يأتي تصوره لمختلف الجوانب التي تشكل الإنسان حسب نموذج أقترحه لهذا الغرض. ويقوم هذا النموذج على وصف الإنسان من خلال خمسة أبعاد أو جوانب وهي: الجوانب الروحية والجسمية والعقلية والوجدانية والسلوكية.

1- الجانب الروحي:

أولى إقبال اهتماما كبيرا للجانب الروحي عند الإنسان سواء كان ذلك في تشكيل الذات الإنسانية وتحصيل المعرفة أو في الإتصال بالعالم العلوي وما يرتبط بذلك من رياضة روحية.

فإلى جانب الاهتمام بالعقل والحس ودورهما في تحصيل المعرفة وتسخير الطبيعة بالملاحظة والبحث التجريبي، يرى إقبال ضرورة الإهتمام بالقلب. والقلب عنده "نوع من علم الباطن أو البداهة" . والقلب ليس قوة خفية -كما يؤكد إقبال على ذلك- بل ما هو "إلا أسلوب من أساليب تحصيل الحقيقة ليس للحس -بما لهذه الكلمة من معنى فسيولوجي- أي دخل فيه".

ورغم وصف إقبال لنشاط القلب بأنه رياضة روحانية أو صوفية إلا أن هذه الرياضة لا تعدو أن تكون نوعا آخر من أنواع التجربة، وإن كانت مستوى آخر من مستويات تحصيل المعرفة" .

وإذا كانت التجربة العقلية والحسية تنطلق من الجزء لتشكيل الكل، فإن الرياضة الصوفية كل لا يقبل التحليل ولا أثر فيها للتمييز المعهود بين الذات والموضوع.

وينفى إقبال بأن يكون الإدراك الحسي الذي نعرف به العالم الخارجي هو عين أسلوب العلم بكل شيء آخر؛ ذلك لأن إدراك أنفسنا ذاتها -حسب تأكيده- لا يتم إلا بالتأمل الباطني أولا وبالإدراك الحسي ثانيا.

ويوضح إقبال بأن المعرفة الصوفية لا تنفصل انفصالا كليا عن الفكر، وبأن التجربة الصوفية من "حيث هي سبيل إلى المعرفة مجال حقيقي لا يقل في ذلك عن أي مجال آخر من مجالات التجربة الإنسانية، ولا يمكن تجاهله لمجرد كونه لا يرجع في نشأته إلى الإدراك الحسي".

ويولى إقبال أهمية كبيرة للحقيقة وضرورة الوصول إليها. ولإدراك ماهية الحقيقة، يؤكد إقبال أنه "ينبغي للفكر البشري أن يسمو فوق ذاته، وأن يجد كماله في حال من أحوال العقل يسميها الدين الصلاة؛ ذلك لأن الدين تجربة حية وسعي للإتصال الوثيق بالحقيقة بينما الفلسفة عبارة عن نظر عقلي في الأشياء يحاول أن يرى الحقيقة من بعد".

ويجعل إقبال ميدان العبادة أو الصلاة مجالا لالتقاء وتفاعل وتكامل الجانب الروحي مع الجانب المعرفي أو العقلي في الشخصية؛ فهو يرى مثلا أن البحث عن المعرفة بالمعنى الصوفي هو الباعث الأصلي على العبادة. وفي هذا يقول: "أما العبادة في حالة الوعي الصوفي فهي في معظمها تتصل بالمعرفة. وهذه الناحية المعرفية هي التي سأحاول الكشف عن معنى الصلاة عن طريقها ووجهة النظر هذه مبررة تمام التبرير بالنظر إلى الباعث الأصلي على العبادة".

ولتأكيد موقفه من العبادة، يستشهد إقبال برأي العالم النفساني الأمريكي وليام جيمس: "يرجح لدينا أن الناس سيظلون يصلون إلى آخر الزمان، بالرغم مما قد يأتي به العلم من عكس ذلك، اللهم إلا إذا تغيرت طبيعتهم العقلية إلى حالة ليس لدينا شيء مما نعرفه يهدينا إلى توقعها. والباعث للإنسان على الصلاة نتيجة ضرورية لحقيقة هي أن النفس الإنسانية التجريبية وإن كانت في صحيحها نفسا اجتماعية فإنها لا تستطيع أن تعثر على ندها ( أي رفيقها الأعظم) إلا في عالم مثالي…".

ويخلص إقبال بعد ذلك إلى القول بأن "الكلام عن الصلاة من الناحية السيكولوجية يدل على أنها غريزية في أصلها. فالصلاة التي تستهدف المعرفة تشبه التأمل، ومع ذلك فالصلاة في أسمى مراتبها تزيد كثيرا على التأمل المجرد…فالعقل في تفكيره يلاحظ فعل الحقيقة ويتقصى آثاره، ولكنه في الصلاة يتخلى عن سيرته بوصفه باحثا عن العموميات البطيئة الخطو، ويسمو فوق التفكير ليحصل الحقيقة ذاتها، لكي يصبح شريكا في الحياة شاعرا بها…فالصلاة من حيث هي وسيلة للهداية الروحانية فعل حيوي عادي تكشف به شخصيتنا التي تشبه جزيرة صغيرة مكانها في الوجود الخضم الأكبر للحياة".

ولا يفصل إقبال بين النشاط العقلي والتجربة الروحية (العبادة، الصلاة) فيؤكد بأن الصلاة هي أيضا "تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمل في الطبيعة. وملاحظة الطبيعة ملاحظة علمية تجعلنا على اتصال وثيق بسلوك الحقيقة، فتشحذ بذلك إدراكنا الباطني لشهود الحقيقة شهودا أوفى وأعمق". ويضيف إقبال -في نفس الصفحة- "أن كل طلب للمعرفة هو في جوهره صورة من صور الصلاة".

ويدعو إقبال إلى ضرورة الجمع بين القوة والمشاهدة لكي تمتد الحياة الروحية عند الإنسان. أما القوة فتنتج من سيطرة الإنسان على الطبيعة بينما يقصد بالمشاهدة مشاهدة الكل غير المتناهي. وهذا الجمع بين القوة والمشاهدة عملية ضرورية حيث لا ينبغي أن ينفصل أحد قطبيها عن الآخر؛ إذ أن القوة من غير المشاهدة تنزع منزع التدمير والتجرد من الإنسانية بينما المشاهدة المجردة عن القوة وإن كانت تحقق السمو الخلقي إلا أنها تعجز عن توفير ثقافة دائمة.

وفي الواقع، فإن هذا التصور قلما نجده مجسدا في الحياة الاجتماعية للطرق الصوفية إلا في بعض النماذج التي قاومت الفساد الداخلي أو الإحتلال الأجنبي.

ورغم اهتمام إقبال أساسا بالشخصية الفردية ونموها الروحي والعقلي، فإن إقبال لم يهمل البعد الجماعي في عملية النمو الروحي؛ فيؤكد أن "الغرض الحقيقي من الصلاة يتحقق على خير وجه عندما تكون الصلاة جماعة، فروح كل صلاة روح اجتماعية".

ولقد حاول إقبال أن يعتمد على علم النفس في شرح تأثير الجماعة والاجتماع في مختلف القوى الإنسانية: إنماء الإدراك وتعميق الشعور، وتحريك الإرادة، ولكنه لم ينس أن يشير إلى "أن علم النفس لم يكشف بعد عن القوانين الخاصة بتزايد الحساسية في حالة التجمع". وإن كانت هذه الإشارة صحيحة في تلك الفترة التي عاشها إقبال واحتك بها بالغرب، فإنها لا تثبت الآن بعد التطور الذي حدث في ميدان علم النفس. ومن التفسيرات النفسية التي تقدم عن هذه الظاهرة هو اكتشاف الإنسان بالتجربة أن حل المشكلات يكون أسرع وأسهل وبطريقة إبداعية إذا درست في إطار فريق منسجم ومتعاون أو في إطار منظم.

ومهما كانت الصلاة فردية أم جماعية فإنها -كما يؤكد إقبال- "تعبير عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف. وهي فعل فريد من أفعال الاستكشاف تؤكد به الذات الباحثة وجودها بوصفها عاملا محركا في حياة الكون. وصور العبادة في الإسلام في صدق انطباقها على سيكولوجية المنزع العقلي ترمز إلى إثبات الذات وإنكارها معا" .

وإذا عدنا إلى موضوع كمال النفس، فإننا نلاحظ أن رغم إيمان إقبال بكون رياضة الباطن (الوعي الصوفي) مصدرا من مصادر المعرفة إلى جانب التاريخ والطبيعة، فإنه لا يسلم بكمال النفس من حيث هي متناهية، ومن حيث هي وحدة من وحدات الوجود. وفي هذا يقول: "وقد يسهل علينا أن نسلم بأن النفس ، في تناهيها، عديمة الكمال من حيث هي وحدة من وحدات الوجود. وفي الحق، أن طبيعتها تنحصر في مواصلة السعي لكي تصبح وحدة أكثر شمولا، وأقوى أثرا، وأعظم اتزانا وتفردا. ومن يدري عدد أنواع البيئات المختلفة التي تحتاج إليها النفس لكي تصبح وحدة كاملة؟ وهي في مرحلة تركيبها الحاضرة عاجزة عن الاحتفاظ باستمرار توترها من غير أن يعاودها ارتخاء النوم المستمر. وقد يخل بوحدتها أحيانا باعث تافه ويبطلها بوصفها قوة مدبرة متصرفة. ولكن مهما يذهب الفكر في التحليل والتشريح فإن شعورنا بالذاتية هو الشعور الذي ننتهي إليه".

- خلود النفس (الروح): يؤمن إقبال بخلود الروح في عالم غير أرضي؛ ويقرر القضايا الآتية بالنسبة للروح.

1- أن للروح بداية في الزمان.

2- أن القرآن يرى أن الرجوع إلى الأرض غير ممكن.

3- أن النهاية أي انقضاء الأجل ليس بلاء. ومهما كان المصير النهائي للإنسان فإنه لا يعني فقدان فرديته (شخصيته) "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" (مريم، 95).

4- أن الإنسان في نظر القرآن متاح له أن ينتسب إلى معنى الكون وأن يصير خالدا .

وفيما يتعلق بخلود النفس، يقرر إقبال قضية تبدو غريبة جدا لمن يتمسك بظاهر النصوص حيث يقول: "فالحياة تهيء مجالا لعمل النفس، والموت هو ابتلاء لنشاطها المركب، وليست هناك أعمال تورث اللذة، وأعمال تورث الألم، بل هناك أعمال تكتب للنفس البقاء أو تكتب لها الفناء. فالعمل هو الذي يعد النفس للفناء أو يكيفها لحياة مستقلة. ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو احترامى للنفس في وفي غيري من الناس".

وبناء على هذه المقدمة في قضية الخلود التي طرحها إقبالا طرحا فلسفيا، فإنه يرى بأننا لا ننال الخلود "بصفته حقا لنا وإنما نبلغه بما نبذل من جهد شخصي، والإنسان مرشح له لا غير".

إن موقف إقبال من الجانب الروحي عند الإنسان سواء في مجال العبادة بالمفهوم الضيق للكلمة أو في مجال تحصيل المعرفة بالرياضة الروحية، لا يمكن أن يفهم بمعزل عن تصويره للجانب العقلي عند الإنسان، وضرورة تكامل هذا الجانب مع الجانب الروحي؛ وذلك ما سنراه واضحا عندما نتعرض أدناه إلى الجانب العقلي وتكامله مع الجانب الروحي في فكر إقبال.

2- الجانب العقلي:

قبل التعرض إلى تناول إقبال للجانب العقلي عند الإنسان، يود الباحث أن يشير إلى تصور إقبال للمعرفة وللرياضة الدينية كما يسميها. يتساءل إقبال في كتابه التجديد الديني تحت عنوان "المعرفة والرياضة الدينية" فيما إذا كان من الممكن أن نستخدم في مباحث الدين المنهج العقلي البحت للفلسفة؟

ينتهي إقبال في إجابته عن هذا السؤال إلى أن جوهر الدين عكس روح الفلسفة؛ إذ جوهر الدين قائم على الإيمان. و"الإيمان كالطائر يعرف طريقه الخالي من المعالم غير مسترشد بالعقل".

ورغم تأكيد إقبال على اختلاف منهج الدين عن منهج الفلسفة إلا أنه لا ينفى بأن الدين أشد حاجة حتى من المبادىء العلمية المسلمة إلى أساس عقلي لمبادئه الأساسية.

ويؤكد إقبال أن الفكر والبداهة غير متضادان بالضرورة بل "ينبعان من أصل واحد، وكل منهما يكمل الآخر؛ فأحدهما يدرك الحقيقة جزءا جزءا، والآخر يدركها في جملتها".

وينتقد إقبال سقراط لتأكيد هذا الأخير على "أن معرفة الإنسان معرفة حقة إنما تكون بالنظر في الإنسان نفسه، لا بالتأمل في عالم النبات والهوام والنجوم". ويرى إقبال في هذا الموقف وفي موقف أفلاطون الذي قام على الإعتقاد بأن الحس يفيد الظن ولا يفيد اليقين، ابتعادا عن تعاليم القرآن الذي دعا إلى النظر في الظواهر الطبيعية ومختلف الكائنات الحية والجامدة وإلى النظر في السمع والبصر.

وفي الواقع، فإننا لا ندري كيف فات إقبال في هذا الموقف بالذات أن القرآن الكريم قد دعا حقا إلى التأمل في الظواهر الطبيعية، ولكنه دعا أيضا إلى تأمل النفس باعتبارها من آيات الله، وإلى النظر في الإنسان نفسه بصفة عامة. ومن ذلك قوله تعالى: "فلينظر الإنسان مم خلق…" (الطارق). ومن ذلك أيضا قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق من ربهم".

ولا يكتفي إقبال بنقد سقراط وأفلاطون بل و ينتقد بكل جرأة وأكثر من مرة المتقدمين من علماء الإسلام الذين انبهروا -حسب رأيه- بالفكر اليوناني فقرأوا القرآن الكريم على ضوء هذا الفكر. ويشير إقبال إلى أنه قد "مضى على هؤلاء العلماء أكثر من قرنين من الزمان قبل أن يتبين لهم في وضوح غير كاف أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة القديمة".

ويواصل إقبال نقده لكل من الغزالي وابن رشد والمعتزلة والأشاعرة؛ فينتقد مثلا الأشاعرة الذين كانوا على طريق الصواب -حسب رأيه- إلا أنه لم تكن غايتهم في جملتها إلا الدفاع عن رأي أهل السنة بأسلحة من المنطق اليوناني. وينتقد إقبال المعتزلة أيضا لأنه غاب عنهم أنه في ميدان المعرفة -سواء كانت علمية أم دينية- لا يمكن للفكر أن يستقل تمام الإستقلال عن الواقع المتحقق في عالم التجربة.

ويأخذ إقبال على الغزالي تأكيده على عجز العقل عن الوصول إلى أحكام جازمة مما دفعه إلى أن يقيم حدا فاصلا بين العقل والبداهة وفاته أنهما متصلان اتصالا أساسيا، كما فاته أن يدرك بأن العقل في جوهره غير متناه.

ويؤكد إقبال بعد هذا النقد بأن "الفكر بجوهره لا يقبل التقيد، ولا يستطيع البقاء حبيسا في نطاق ذاتيته الضيق". ويؤكد إقبال بكل وضوح بأن حركة الفكر حركة مستمرة غير متناهية بل إن هذه الحركة "لا تصبح ممكنة إلا بسبب حضور اللامتناهي حضورا ضمنيا في ذاته المتناهية، فيبقى شعلة الأمل متأججة فيه وتغذيه في حركته التي لا تنتهي".

- التجربة الشعورية:

حاول إقبال تحليل التجربة الشعورية تحليلا سيكولوجيا دقيقا بهدف الوصول إلى فهم طبيعة الزمان من منظور مختلف عن المنهج الوضعي البحت؛ فيؤكد أن هذه التجربة وحدها هي التى تظهر حقيقة الزمان. ولفهم هذه التجربة، يميز إقبال بين ناحيتين من نواحي النفس وهما: الناحية العالمة والناحية العاملة.

ويؤكد إقبال أن النفس العالمة "تحيا في مدة بحتة أي في صورة من غير تعاقب. وحياة النفس تتألف من حركتها من العلم إلى العمل. وانتقالها من البداهة إلى التعقل، ومن هذه الحركة ينشأ الزمان الذري. وهكذا، فإن طبيعة تجربتنا الشعورية، وهي نقطة البدء لكل معرفة تهدينا إلى التصور الذي يوفق بين تقابل دوام الزمان لو اعتبرناه كلا متكاملا أي سرمدا، وبين تغير الزمان لو اعتبرناه مركبا من أجزاء متناهية".

وكما أن كمال الذات عند إقبال كمال نسبي، فإن التكوين العقلي للإنسان لا يمكن أن يكون إلا نتاج معرفة جزئية؛ ذلك لأن تكويننا العقلي "لا يمكننا إلا من معرفة الموجودات معرفة جزئية لا غير، فلسنا بقادرين على إدراك المعنى الكامل للقوى الكونية العظيمة التي تنشر الخراب والدمار، وهي في الوقت نفسه تحفظ الحياة وتزيدها قوة ونماء. وتعاليم القرآن التي تؤمن بإمكان تقويم سلوك الإنسان وبسط سيادته على قوى الطبيعة، لا هي بالمتفائلة ولا هي بالمتشائمة بل هي تحسن الظن بالعالم فتسلم بعالم ينمو ويزداد، ويحركها الأمل في انتصار الإنسان آخر الأمر على الشر" .

ومن طبيعة النفس - عند إقبال- أن تنشد المعرفة إلى جانب التكاثر والقوة من أجل ضمان بقائها. وفي هذا المعنى، يرى أن من طبيعة النفس "أن تبقى على ذاتها من حيث هي نفس وبسبب هذا تنشد المعرفة، والتكاثر والقوة، أو كما جاء في القرآن تسعى وراء (ملك لا يبلى). والحادثة الأولى في رواية القرآن للقصة تتعلق برغبة الإنسان في المعرفة والثانية تتعلق برغبته في التكاثر والقوة".

ويرى إقبال أن الإنسان محكوم بالعاطفة والغريزة. أما العقل الإستدلالي، وهو الذي يجعل الإنسان سيدا لبيئته فأمر كسبي فإذا حصلناه مرة وجب أن نثبت دعائمه ونشد من أزره، وذلك بكبت أساليب المعرفة التي لا تعتمد عليه". ويؤكد إقبال أن مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي الذي أصبح بالنسبة للحياة مصدرا ضروريا للمعرفة يلائم اتجاهها الجديد.

ويربط إقبال بين تحصيل المعرفة ومعرفة النفس مرة أخرى، وهنا يوضح بأن ذلك يتم بتحصيل المعرفة بالنظر في الأنفس والآفاق كما يقتضي ذلك القرآن الكريم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم، فصلت، 53).

ولكن إقبال يسرع ويستدرك أنه ليس معنى ذلك "هو إحلال العقل محل الشعور إحلالا كاملا. فمثل هذا ليس ممكنا ولا مرغوبا إنما قيمة هذه الفكرة من الناحية العقلية هي في اتجاهها إلى خلق نزعة حرة في تمحيص الرياضة الصوفية إذ تجعل الإنسان يعتقد أن كل سلطان شخصي يزعم أن له أصلا خارقا للطبيعة قد فات أوانه في تاريخ البشر. ومثل هذا الاعتقاد قوة سيكولوجية تحول دون نمو مثل هذا السلطان. وعمل هذه الفكرة هو أنها تفتح سبيلا جديدة للمعرفة في ميدان الرياضة الروحية عند الإنسان" .

ويعود إقبال مرة أخرى إلى الحديث عن الرياضة الصوفية ووجوب اعتبارها رياضة طبيعية تماما، مهما كانت أمرا غير عادي أو شيئا غير مألوف، وأنها خاضعة للنقد والتمحيص، شأنها في ذلك شأن غيرها من وجوه التجارب الإنسانية .

- مصادر المعرفة:

يقرر إقبال بأن الرياضة الصوفية "ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم. والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ. وروح الإسلام على أحسن صورها تتجلى في فتح طريق البحث في هذين المصدرين" .

والدعوة إلى البحث في عالم الحس، وما يقترن بذلك من إدراك يتماشى مع ما يراه القرآن الكريم من أن الكون متغير في أصله، متناه قابل للازدياد. وهذا ما أدى بمفكري الإسلام إلى مناقضة الفكر اليوناني بعد أن أقبلوا في باكورة حياتهم العقلية على دراسة آثاره في شغف شديد. ويورد إقبال شواهد على هذا الرأي بالقول بأن ابن حزم قد أكد في كتابه "التقريب في حدود المنطق" أن الحس أصل من أصول العلم. وابن تيمية يبين في كتابه "نقد المنطق" أن الإستقراء هو الطريقة الوحيدة الموصلة إلى اليقين.

ويخلص إقبال أن هذا كان منطلق قيام المنهج التجريبي القائل بأن الملاحظة والتجربة هما أساس العلم وأصله لا التفكير النظري المجرد. ويؤكد إقبال مرة أخرى أن: "المعرفة يجب أن تبدأ بالمحسوس وقدرة العقل على تحصيل المحسوس وسلطانه عليه هو الذي ييسر له الانتقال من المحسوس إلى غير المحسوس" .

- الإبداع:

يعتبر كتاب إقبال المسمى "تجديد الفكر الديني" عملا إبداعيا رائعا حيث بلور فيه أهم أفكاره، ودرس فيه الفكر الإسلامي دراسة نقدية موضوعية مع تقديم البدائل النظرية والعملية فيما يخص نظرته للإنسان والمعرفة والتطور الإجتماعي والحضاري. وبالإضافة إلى هذا العمل الإبداعي، فقد نعى على المسلمين جمودهم على القديم وتقصيرهم في الإبداع والابتكار فقال: "والجمود على القديم في الدين ضار كما هو ضار في أية ناحية أخرى من نواحي النشاط الإنساني، فهو يقضي على حرية الذات المبدعة، ويسد المنافذ الجديدة للإقدام الروحاني. وهذا هو السبب الرئيسي في عجز الطرق التي اتبعتها صوفية القرون الوسطى عن تخريج أفراد لهم قوة الإبتكار على كشف الحق القديم".

ويعتقد إقبال ويؤكد بأن أساس الحركة في بناء الإسلام هو "الإجتهاد"، وهو لغة، بذل الوسع واصطلاحا استعمال الرأي للوصول إلى حكم فقهي. ويناقش إقبال -وبكل جرأة- عوامل الجمود والركود الفكري في العالم الإسلامي كعاقبة من عواقب غلق باب الإجتهاد الذي يعود إلى عوامل أهمها:

1- الصراع بين العقليين وأهل السنة حول عدة قضايا كلامية من أهمها قضية "خلق القرآن". وقد انتهى الصراع إلى انتصار أهل السنة بتأييد من رجال الدولة العباسية.

2- نشأة التصوف "التزهدي" وتأثره بطابع غير إسلامي وهو جانب نظري بحت أدى إلى الانصراف عن كل ما يتصل بالظاهر والاهتمام بالباطن الشيء الذي حجب في عصوره الأخيرة ناحية هامة من نواحي الإسلام بوصفه دستورا اجتماعيا.

3- تخريب بغداد في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي على يد التتار.

وللتغلب على الجمود ومحاربة قوى الانحلال في شعب من الشعوب، ينبغي القيام "بتنشئة أفراد ذوي فردية قوية. ومثل هؤلاء الأفراد هم وحدهم الذين تتجلى فيهم أعماق الحياة. فهم يجهرون بمقاييس جديدة نبدأ نرى في ضوئها أن بيئتنا ليست واجبة الحرمة في كل شيء، بل تفتقر إلى التعديل. والميل إلى المبالغة في التنظيم بإظهار احترام زائف للماضي الأمر الذي يلاحظه عند فقهاء المسلمين في القرن الثالث عشر وما تلاه كان مخالفا لروح الإسلام" .

وقد دعا إقبال صراحة إلى إعادة النظر في تراثنا العقلي بحيث يؤدي الأمر إلى إضافة جديد في التفكير الإسلامي أو كبح حركة التحلل من الدين التي تنتشر بسرعة في العالم الإسلامي.

ولا تمثل دعوة إقبال لإعادة النظر في التراث العقلي الإسلامي رفضا مطلقا للماضي بل يصر إقبال على نبذ التقليد الأعمي، كما يلح على ضرورة الجمع بيت الجديد والقديم، وقد أوضح ذلك في كتابه "أسرار ورموز" (ص،124).

وكما دعا إقبال إلى نبذ التقليد الأعمي للأفرنج ورفضه، فقد دعا أيضا إلى الإنشاء والتجديد، وإلى بناء الذات وعدم ذوبانها في ذوات أخرى بفعل التقليد الأعمي. فقد قال إقبال في نعي التقليد والجمود:

كيف تجلى حقائق للعيون عميت للخضوع والتقليد

كيف يحيى الفرنج عربا وفرسا بفنون تسير نحو اللحود

ولا يكتفي إقبال بالدعوة إلى نبذ التقليد والجمود بل يدعو أيضا إلى الإبداع كسبيل تقوية الذات والوصول إلى العظمة:

نشأته ظلمة التقليد بالناس تحيق

غير أن الطبع بالإبداع والخلق خليق

مثل شمس الصبح فكر فيه نور وبريق

لفظه حر يسير لكن المعنى دقيق

ويقيم إقبال علاقة بين العمل الإبداعي للذات والغاية التي تسعى إليها الذات، وقد صور ذلك نثرا وشعرا في حديثه عن الذات وغايتها حيث قال: "فمنتهى غاية الذات ليس أن ترى شيئا، بل أن تصير شيئا. والجهد الذي تبذله الذات لكي تكون شيئا هو الذي يكشف لها فرصتها الأخيرة لشحذ موضوعيتها وتحصيل ذاتية أكثر عمقا، ترى الدليل على حقيقتها في قول كنط "أنا أقدر" لا قول ديكارت "أنا أفكر".

وليست غاية مطلب الذات التحرر من حدود الفردية بل هي على العكس من هذا والمطلوب وتحديدها تحديدا أدق وأوفي. والعمل الأخير ليس عملا عقليا، وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع بأن العالم ليس شيئا لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور، وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر. واللحظة التي تعرف فيها الذات ذلك هي اللحظة التي تستشعر فيها السعادة العظمى وتجتاز فيها أكبر امتحان لها…" .

- الجانب الوجداني:

أولى إقبال الجانب الوجداني أهمية كبرى في فكره وخاصة في القصائد الشعرية الكثيرة التي صاغها بأسلوب عاطفي جانح ومحلق على أمواج العواطف؛ فقال:

آلامنا إلى العلا أجنحة نعلو بها فوق مطارات النسور

الروح سر والحياة ظلمة وشعلة الآلام للأرواح نور

ولكن إقبال لا يرخي العنان للعاطفة وحدها بل يرى ضرورة تطعيمها بالعقل إلى درجة تحقيق التوافق بينهما، وتحقيق الجمع بينهما بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر في بناء الإنسان وفي تشييد الحضارة، فقال عن ذلك في منظومة "جاويدنامه":

في الغرب العقل مصدر الحياة !

وفي الشرق "العاطفة" قوام الحياة !

وبواسطة الحب "العاطفة" يحيط العقل بالحقائق !

فيعزز شغل الحب..انهضوا وأقيموا دعائم عالم جديد !

بالتوفيق بين العقل والعاطفة !

ومما يتصل باهتمام إقبال بالجانب الوجداني كجزء هام من جوانب الذات موضوع العشق. والعشق عند إقبال -كما يورد ذلك الكيلاني- هو: "وقود يثير الحركة والتدفق والتدافع، ويشعل الحماس ويؤجج العاطفة.. وهو الطاقة التي إذا انطلقت لم تعقها السدود ولا القيود؛ لأن الذات العاشقة فوق الزمان والمكان، وهي القدرة وهي القضاء".

ويعقد إقبال مقارنة بين الجانب العاطفي للذات والجانب العقلي فيرى أن العشق يمثل الجانب الأول بينما يمثل العلم الجانب الثاني. وكما أن إقبال يعطي الصدارة للعشق ويرفعه إلى أسمى مكانة فإنه لا يغمط العلم حقه؛ فقال في ذلك:

قال لي العلم غرورا "إنما العشق جنون"

قال لي العشق مجيبا "إنما العلم ضنين"

لا تكن سوس كتاب يا أسيرا للظنون

فمن العشق شهود

ومن العلم حجاب

ومن لهيب العشق ثارت ثورة في الكائنات

وشهود الذات للعش-- ق، وللعلم صفات

ومن العشق ثبات وحياة وممات

علمنا سؤال جلي

عشقنا خافي الجواب

معجزات العشق ملك زانه فقر ودين

وعبيد العشق أدناهم له عرض مكين

ويرى إقبال أن العشق هو الموصل لليقين، وبه تفتح الأبواب وأنه أم الكتاب، وقد قال في ذلك:

ومن العشق زمان ومكان و (مكين)

إنما العشق يقين

وبه يفتح باب

ألفة المنزل في شرع من الحب حرام

خطر البحر حلال راحة السرب حرام

خفقة البرق حلال وفرة الحب حرام

علمنا نسل كتاب

عشقنا أم الكتاب

ويكون العشق عند إقبال بحب النبي محمد (ص)، واتباع سبيله حيث يقول: "كل من يكون متاعه عشق "المصطفي" يكون البر والبحر في طرف ذيله".

لم يقتصر اهتمام إقبال على العشق كجانب وجداني مهم في شخصية الإنسان بل حاول أيضا أن يشرح منشأ الخجل ومصدر الألم عند الإنسان.

وعليه، فإن منشأ الخجل -عند إقبال- يعود إلى ما اعترى آدم من الخجل عندما انكشفت عورته بعد أكله من الشجرة المحرمة. وقد بدا خجله في حرصه على ستر عورته.

ويفسر إقبال الصراع الناشىء بين الناس والألم الذي يعانيه البشر بسبب ظهور الأفراد (الفرديات) وتكاثرهم، وكل منهم جاعل نصب عينيه الكشف عن إمكانياته والبحث عن أسباب ملكه. ويستشهد إقبال على زعمه بقوله تعالى "قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو" (الأعراف،24).

ويؤكد إقبال بأن "هذا الصراع المتبادل بين الأفراد المتعارضين هو مصدر ألم الدنيا الذي يبعث في الحياة الفانية النور والظلمة كليهما وفي الإنسان الذي تتعمق فرديته فتصبح شخصية تهيء له إمكان ارتكاب الشر، يصبح الشعور بمأساة الحياة عنده أكثر حدة وشدة. على أن رضى الإنسان بوحدة الشخصية بوصفها صورة من صور الحياة، يتضمن الرضى بجميع العيوب التي تنشأ عن تناهيها" .

وبعد أن يتعرض إقبال إلى قضية قبول الإنسان لحمل الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)، يطرح السؤال الآتـي:

أ فنستجيب إذن لأمانة الشخصية مع كل ما يصاحبها من شرور أم لا نستجيب لها؟

ويجيب إقبال عن هذا السؤال بقوله: "إن الرجولة الحقة، كما جاء في القرآن هي الصبر في البأساء والضراء. على أننا في المرحلة الحاضرة من مراحل تطور الشخصية لا نستطيع فهم كل ما تنطوي عليه التجارب التي تنشأ عن قوة الألم الجارفة، فلربما أكسبت النفس منها قوة تقاوم بها ما قد يواجهها من انحلال".

ومهما تراكمت الآلام والشرور التي تصادف الإنسان فإن الإيمان يقتضي التسليم بفوز الخير في النهاية كعقيدة من عقائد الدين (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (يوسف،21).

ومن الملاحظ أن إقبال يعتقد بأن كل شيء في الوجود قابل للتطور؛ الكون بكائناته المختلفة، ومن بينها الإنسان نفسه وشخصيته. كما يعتقد إقبال أن الخير والشر متلازمين منذ خلق الله النور والظلام وخلق "آدم"، وصور إبليس.

وقد صور "الكيلاني" الموقف التفاؤلي لإقبال من الحياة والإنسان أحسن تصوير حيث أورد أن إقبال قد نظر إلى الدنيا "نظرة واقعية آملة واعية وأن الإنسان نفسه يستطيع أن يخلق من الألم سعادة، ومن الحرمان لذة، ومن الكفاح والنضال متعة، ومن الأزمات والنكبات عبرة ودروسا وحافزا للوثوب وأن يصبر ويصابر ويثابر، وأن يتوكل ولا يتواكل، وأن ينمي ذاته ويربيها التربية الكاملة التي تصل بها إلى مرتبة خلافة الله في الأرض فيحق الحق ويزهق الباطل، ويدفع الناس دائما من حسن إلى أحسن في طريق الإيمان والإرادة القوية…".

- العاطفة والمعرفة:

انتقد إقبال الطريقة السيكولوجية في تفسير العاطفة الدينية، وعجزها عن إدراكها كصورة من صور المعرفة؛ ذلك لأن "الفرويدية" تفسر العاطفة الدينية كنشاط لا شعوري، وأنها (العاطفة) تنشأ عما في اللاشعور من شدة تهز أعماق كيان الفرد.

- الحب والجمال عند إقبال:

آمن إقبال في المراحل الأولى من حياته العلمية بأن الجمال الأزلي هو الذي خلق الحب. ولكن إقبال عكس القضية في أواخر حياته (ابتداء من سنة 1920) حيث اعتقد إقبال بأن جوهر الواقع Reality ليس الجمال ولكن الحب هو الأساس وهو الجوهر. وأن الله هو الذي خلق الطبيعة ولكن خليفة الله (الإنسان) هو الذي جعلها جميلة !

والجمال على حقيقته في نظر إقبال كامن في عين من يحس به، وليس في المناظر المشهورة والصور المحبوبة.

4- الجانب الجسدي:

لم يغفل إقبال الحديث عن الجانب الجسمي إلى جانب الأبعاد الأخرى للإنسان فتعرض إلى علاقة العقل بالجسم وإلى العلاقة بين الروح والجسم وإلى قضية تطور الإنسان.

انتقد إقبال نظرية التطور الداروينية فوصفها بأنها أورثت العالم الحديث اليأس والحيرة بدلا من التحمس للحياة في أمل ورجاء؛ وذلك راجع إلى افتراض هذه النظرية بأن "تركيب الإنسان الحاضر سواء أكان عقليا أم فسيولوحيا هو خاتمة المطاف للتطور البيولوجي، وأن الموت من حيث هو حدث بيولوجي، ليس فيه أي معنى من معاني البناء".

إن هذا الفهم المادي البحت للتطور يتنافى مع عدة قضايا إسلامية ترتبط أساسا بالجانب الروحي للإنسان كقضايا البعث بعد الموت وخلود النفس. ولكن هذا الإعتراض لا ينفي قضية تطور الكون والإنسان في فلسفة إقبال؛ ولذا فهو يؤكد عدة مرات في كتابه على التغير والتطور الذي يمر به كل من الكون والإنسان، ويستشهد بشعر جلال الدين الرومي عن تطور الإنسان حيث قال:

من مرتبة الجماد إلى مرتبة النبات فإلى مرتبة الحيوان ثم إخراجه

إلى الحالة الإنسانية فانتقل من مرتبة طبيعية إلى مرتبة أخرى

حتى أصبح حكيما عالما قويا كما هو الآن

ولكنه لا يذكر شيئا عن نفوسه الأولى

ولسوف تتغير نفسه الحاضرة مرة أخرى

ولا يعتقد إقبال بأن سيرة الإنسان تنتهي بفناء بدنه بل فناء البدن مرحلة للانتقال إلى مرحلة أخرى تتمثل في البعث؛ وفي هذا يقول: "إذا تناولنا الأمر من الناحية الفلسفية لا نقدر على أن نقول أكثر من أن ماضي تاريخ الإنسان يجعل من المستبعد أن تنتهي سيرته بفناء بدنه".

- العلاقة بين النفس والجسد:

بعد أن ناقش إقبال مختلف الآراء حول العلاقة بين النفس والجسد انتهى إلى خلاصة مفادها أن "القول بالموازاة بين فعل الجسد وفعل النفس أو بتبادل التأثير بينهما كلاهما قول غير صالح، ومع ذلك فالعقل والجسد يصبحان في الفعل أمرا واحدا ".

ولتصور هذا الوضع أو العلاقة يورد إقبال مثالا بسيطا حيث يقول: "فعندما أتناول كتابا من على مكتبي يكون فعلي هذا واحدا غير قابل للتجزئة، ويستحيل أن نقيم حدا فاصلا بين نصيب الجسد ونصيب العقل في هذا الفعل، بل ينبغي أن يرد عملهما بوجه ما إلى نظام واحد بعينه. وهما في نظر القرآن ينتسبان فعلا إلى نظام واحد إذ يقول (ألا له الخلق والأمر)".

ويواصل إقبال شرح هذه العلاقة فيقول: "لقد رأينا أن الجسم ليس شيئا قائما في فراغ مطلق، بل هو نظام من حوادث أو أفعال. ونظام التجارب الذي نسميه الروح أو النفس هو أيضا نظام من أفعال. وليس في هذا ما يطمس التمايز بين الروح والجسد بل هو يقرب بينهما فقط. والنفس خاصتها التلقائية. أما الأفعال المؤلفة للجسد فهي تكرر نفسها.

والجسد هو الفعل المتجمع للروح أو هو عادة الروح. وهو بوصفه هذا لا يقبل الانفصال عنها. والجسد عنصر من عناصر الوعي وهو بسبب هذا العنصر الدائم الذي يبدو من الخارج في صورة شيء ثابت" .

- العلاقة بين العقل والجسد: يقيم إقبال علاقة بين العقل والجسم؛ فيقرر أنه: "لا نستطيع أن نتجاهل أن وضع الجسم عامل حقيقي في تعيين اتجاه العقل، واختيار قبلة واحدة لصلاة المسلمين أريد به أن يكفل وحدة الشعور للجماعة. وهيئتها تخلق على العموم الإحساس بالمساواة الاجتماعية وتقوي أواصره بقدر ما تتجه إلى القضاء على الشعور بالطبقات أو تفوق جنسي من المتعبدين على جنس آخر".

وبعد أن يقيم علاقة وثيقة بين كل من الجسد والروح والجسد والعقل ينتقل إقبال إلى مناقشة قضية فلسفية تتعلق بأصل الحياة النفسية، وأيهما أسبق هل هو الأصل المادي أو الأصل العقلي؟

ويخلص إقبال في هذه القضية إلى التأكيد على أن "تطور الحياة يبين أنه وإن كان الحسي أو الجسمي يتحكم أول الأمر في العقلي، فإن العقلي كلما ازداد قوة اتجه إلى التحكم في الحسي، وقد ينتهي به الأمر إلى الارتقاء إلى حالة من الاستقلال التام. كما أنه ليس ثمة وجود على مستوى حسي أو جسمي بحت بمعنى أن تكون له مادة تعجز بجوهرها عن تفجير التركيب الخالق الذي نسميه الحياة والعقل".

وبناءا على هذا التحديد، فإن النفس -عند إقبال- ليست شيئا جامدا بل هي تنسق ذاتها في الزمان وتتكون وتتكيف بتجاربها الخاصة. والنفس مرتبطة بالجسم، ودور الأم في تربية الجسم وتسوية النفس معا شيء لا ينبغي أن يهمل في فلسفة إقبال حيث أوصى ابنه "جاويد" بأمه خيرا؛ وذلك لدورها الخطير في تربية الجسم وتسوية النفس كما جاء ذلك في ديوانه "في السماء".

5- الجانب السلوكي:

لم يدرس إقبال الإنسان من الجوانب الجسمية والروحية والعقلية والوجدانية فقط بل درس علاقة هذه الجوانب وارتباطها بالسلوك عند الإنسان في إطار بيئة وثقافة ما، وبين كيف تؤثر بعض جوانب الشخصية في جوانب أخرى.

ويربط إقبال بصفة قوية جدا بين الذات (النفس) والسلوك بل ويؤكد بأنه لا يمكن الفصل بينهما حيث يقول: "ولا يمكن للعقل البشري أن يتصور نفسا من غير أن تلحقها صفة؛ أي من غير منهج مطرد من السلوك. والطبيعة ليست ركاما ماديا بحتا من حوادث أو منهج منتظم من السلوك. والطبيعة التي يعيش فيها الإنسان مركب حي دائم النمو. والعلم بالطبيعة هو العلم بسنة الله وملاحظة الطبيعة هي في الحقيقة نوع من السعي للإتصال الوثيق بالذات المطلقة. وما هذا إلا صورة من صور العبادة" .

ويتجلى اهتمام إقبال بالجانب السلوكي حتى عند تحديده لمفهوم الذات أو "خودي"؛ و قد سطر فلسفته عن الذات في ديوانه "أسرار خودي" أو "أسرار الذات". وتتوقف الإنية (الذات) عند إقبال على التمييز بيننا وغيرنا أي بين الذات وغير الذات. وهذا التمايز هو الذي يضمن "الفردية" من جهة، ويمكن الإنسان أو (الذات) من إدراك علاقاته بالآخرين (الناس، الطبيعة). ويؤكد إقبال بأن "البشر ينتسبون بحكم وظائفهم إلى حركة كونية قائمة بذاتها. وأحوال معيشتهم خارجية عنهم في جملتها، ونوع الحياة الوحيد الذي يعرفونه هو الرغبة، أو الطلب، أو الفشل أو النجاح، أي تغير مستمر من موقف إلى آخر" .

ويؤكد إقبال على أن النفس غير منعزلة عن بيئتها بل تتفاعل معها بوعي وإرادة؛ وفي هذا يقول: "فالتجربة الباطنة هي النفس في حالة نشاطها، ونحن نقدر النفس ذاتها في مزاولتها لأعمال الإدراك والحكم والإرادة. ووجود النفس نوع من التوتر ناشىء عن غزو النفس لبيئتها وغزو بيئتها لها. والنفس لا تقف خارج هذا الميدان الذي تتناوب فيه الغزوات، بل هي حاضرة فيه بوصفها قوة مدبرة، وهي تتكون وتتكيف بتجاربها الخاصة" .

وكون النفس قوة مدبرة في تعريف إقبال هو أنها ذات وظيفة تتمثل في التصريف أو التدبير لأنها تصدر عن قوة الله المدبرة. ولكن إقبال نفسه يستدرك قائلا بأننا "لا نعلم كيف يتصرف "الأمر" الإلهي في شكل وحدات روحية" . ونلاحظ هنا نوعا من الخلط عند إقبال بين مفهومي النفس والروح دون أية محاولة منه للتمييز بين المفهومين. وفي الواقع، فإنه من الممكن التمييز بينهما على أساس وظيفي مثلا كأن نقول بأن وظيفة الروح هي حفظ الحياة والنشاط، ووظيفة النفس هي التفكير وتوجيه الوجدان والسلوك في إطار أو قالب جسمي.

ومهما يكن، فقد وفق إقبال توفيقا رائعا عندما عرف الشخصية تعريفا وظيفيا حيث قال: "وعلى هذا فشخصيتي الحقيقية ليست شيئا وإنما هي فعل، وتجربتي ليست إلا سلسلة من الأفعال يتعلق كل منها بالآخر، وتمسكها معا وحدة هدف مدبر" . وكأني بإقبال وهو يقدم هذا التعريف قد تخلى عن منهجية الفيلسوف، واتبع منهجية السيكولوجي حيث اهتم بوظيفة الشخصية بدلا من الاكتفاء بالسؤال عن ماهيتها.

ويزيد إقبال الأمر وضوحا عندما قال: "وحقيقتى بتمامها في منزع تدبيرى، فأنت لا تستطيع أن تدركني بوصفي شيئا في مكان أو مجموعة من تجارب في نظام زماني، بل يجب أن تفسرني، وأن تفهمني وأن تقدرني في أحكامي، وفي منازعي الإرادية، وفي أهدافي، وآمالي" .

وتتم قوة الذات عند إقبال بدوافعها ورغباتها وأهدافها؛ وهي بذلك "حالة من الجهاد المتصل، والتوتر النفسي، والكفاح المستمر، وكل ما يطفيء فيها شعلة الحماس للعمل، ويخمد فيها ثورة التوثب للنضال والسمو فهو قبيح مرذول، أما الذي يقويها وينميها ويدفعها إلى الأمام ويقربها إلى الغاية، ويحفظ عليها التوتر فهو جميل محبوب… وتقوى الذات بتوليد المقاصد، وإيجاد الرغبات، وخلق الأماني".

ولوصول الإنسان إلى الغاية التي رسمها الله له وهي خلافته في الأرض، يرى إقبال في ديوانه "أسرار ورموز" أن الذات تمر بثلاث مراحل وهي:

1- إنشاء المقاصد (الأهداف) وتوليد الرغبات.

2- النضال المستمر والكفاح المتصل، ولهذه المرحلة شروط أساسية أهمها:

- الطاعة والانقياد لأوامر الله تعالى.

- ضبط النفس وجهاد النفس.

3- الوصول إلى مقام المؤمن الكامل الذي يتصف بالصفات الآتية:

- الإرادة وحرية الاختيار.

- التغلب على الدنيا.

- عدم الهيبة من الموت واعتباره معبرا (برزخا ) للخلود.

- تسخير الكائنات وإخضاع الوجود.

- عدم الافتتان بالدنيا والجوانب المادية رغم امتلاكها والسيطرة عليها.

- الصعود المستمر في مدارج الكمال والتقرب إلى الذات الإلهية المطلقة.

وهذه المرحلة الأخيرة لتكون الذات هي التي تؤدى إلى بناء جماعة من الذوات الكاملة أو التي في طريقها إلى الكمال مما يؤهل هذه الجماعة لقيادة البشرية إلى سبيل السلام والنور والحب والخير.

ويصر إقبال على تأثير الجانب الروحي في الجانب السلوكي تأثيرا عظيما إلى حد تمكين الإنسان من غزو النجوم، وإلى حد تحدي يوم النشور؛ فقال في ذلك شعرا، نقتبس منه هذه الأبيات من ديوانه "في السماء":

لو يمس التوحيد فكرا نقيا وضميرا حيا وقلبا أبيا

لأحال الخمول والضعف إيمانا وعزما يغزو نجوم الثريا

وقال أيضا:

لو سرت شعلة الهدى في الصدور وتمشى وميضها في الضمير

لأقام الأحرار للهول يوما يتحدى أهل يوم النشور

وقال عن العلاقة بين الجانب الروحي والسلوك، وتأثير الأول في الثاني فى قصيدة بعنوان "حكمة الكليم" ما يلي:

عندما يصدع النبي بأمر الله جهرا في مسمع الأكوان

يتحد بوحيه كل حكم لأمير في الأرض أو سلطان

لا يرى قصره سوى رسم دير من بقايا هياكل الأوثان

لا يسيغ المقام في موطن الذل ولا يرتضي بعيش الهوان

………………………………………………………..

………………………………………………………..

يصبغ الروح في الجسم بلون غير كل الرسوم والألوان

حولت كيمياؤه الصدف البالي عقدا من الدراري الحسان

يتولى ملء الفراغ بحزم يقهر المستحيل بالإمكان

وينادي العبد المصفد هيا لا تحاك القيود لإنسان

وكما يقيم إقبال علاقة بين الجانب العاطفي والمعرفة، فإنه يقيم أيضا علاقة بين السلوك والمعرفة؛ فيرى مثلا أن اتصاف الإنسان بالعجلة إنما يعود أصلا إلى حرص الإنسان على تحصيل المعرفة عن أقرب طريق. ولقد وصف ذلك إقبال بقوله: "ولكن الشيطان أغوى آدم على أن يأكل الثمرة المحرمة من شجرة المعرفة، وانقاد له آدم لا لأن الشر كان متأصلا في نفسه، ولكن لأنه كان عجولا بطبعه أراد أن يحصل المعرفة عن أقرب طريق".

ولكن كيف يقوم ميل الإنسان إلى العجلة ؟

يزعم إقبال بأن السبيل الوحيد لتقويم ميل الإنسان للعجلة التي هي جزء من طبيعته البشرية هو أن يوضع الإنسان "في بيئة، مهما تكن مؤلمة له، فإنها كانت أكثر ملاءمة لإبراز قواه العقلية. وعلى هذا، فإن إدخال آدم في بيئة مادية مؤلمة له لم يكن القصد منه عقابه، بل كان المراد به بالأحرى القضاء على صد الشيطان الذي احتال - بسبب عداوته للإنسان - بلين القول على أن يبقيه جاهلا للنعيم الذي ينشأ عن النمو والامتداد الخالدين. ولكن بقاء ذات متناهية في بيئة كؤود يتوقف على التزايد المستمر للمعرفة القائمة على التجربة الواقعة. وتجارب هذه الذات المتناهية التي تنفسح أمامها إمكانات عدة، إنما تزداد وتتسع، بطريقة المحاولة والخطأ. وعلى هذا فإن الخطأ الذي يوصف بأنه نوع من الشر العقلي عامل لا محيص عنه في بناء التجربة".

وإذ يتفق الكاتب مع إقبال في أن المحاولة والخطأ أسلوب من أساليب التعلم إلا أن تعلم الإنسان ليس سلسلة غير متناهية من التعلم بالمحاولة والخطأ؛ إذ أن هناك أساليب أخرى للتعلم مثل التعلم عن طريق "ملاحظة النماذج"، والتعلم بالإشراط الكلاسيكي والإشراط الإجرائي والتعلم بالاستبصار (الإدراك الكلي للأجزاء) والتعلم بالإلهام.

وإلى جانب مناقشة بعض جوانب الضعف في الطبيعة البشرية مثل العجلة، فإن إقبال لا يغفل جوانب القوة في الذات الإنسانية مثل حرية الإختيار؛ وفي هذا المعنى يؤكد إقبال "أن القرآن لا يعتبر الأرض ساحة للعذاب سجنت فيه إنسانية شريرة العنصر بسبب ارتكابها خطيئة أصلية. فالمعصية الأولى للإنسان كانت أول فعل له تتمثل فيها حرية الاختيار، ولهذا تاب الله على آدم كما جاء في القرآن وغفر له. وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا: بل هو خضوع عن طواعية للمثل الأخلاقي خضوعا ينشأ عن تعاون الذات الحرة المختارة عن رغبة ورضى. والكائن الذي قدرت عليه حركاته كلها كما قدرت حركة الآلة لا يقدر على فعل الخير. وعلى هذا فإن الحرية شرط في عمل الخير" .

وعموما، فقد حرص إقبال على إقامة علاقة وثيقة بين الذات والسلوك أو العمل المستمر حتى عندما تحدث عن "غاية الذات" ومنتهاها حيث أكد أن منتهى غاية الذات "ليس أن ترى شيئا، بل أن تصير شيئا. والجهد الذي تبذله الذات لكي تكون شيئا هو الذي يكشف لها فرصتها الأخيرة لشحذ موضوعيتها وتحصيل ذاتية أكثر عمقا، ترى الدليل على حقيقتها في قول كنط "أنا أقدر" لا قول ديكارت "أنا أفكر".

وليست غاية مطلب الذات التحرر من حدود الفردية بل هي على العكس من هذا بل وتحديدها تحديدا أدق وأوفي. والعمل الأخير ليس عملا عقليا، وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع بأن العالم ليس شيئا لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور، وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر. واللحظة التي تعرف فيها الذات ذلك هي اللحظة التي تستشعر فيها السعادة العظمى وتجتاز فيها أكبر امتحان لها:

أأنت في مرحلة "الحياة" أم "الموت" أو "الموت في الحياة" ؟

أنشد العون من شهود ثلاثة لتتحرى حقيقة "مقامك"

أولها عرفانك لذاتك

فانظر نفسك في نورك أنت

والثاني معرفة ذات أخرى

فانظر نفسك في نور ذات سواك

والثالث المعرفة الإلهية

فانظر نفسك في نور الله

فإذا كنت ثابت الروع في حضرة نوره

فاعتبر نفسك حيا باقيا مثله".

و يأبى إقبال إلا أن يختتم كتابه "تجديد الفكر الديني" بأبيات شعرية من قصيدته "جاويدنامه" حيث أكد بأسلوب شاعري على أهمية صقل الذات وتهذيب السلوك وارتباطهما بالتجديد:

ما أجل أن يصقل الإنسان ذاته !

وأن يختبر رونقها في سطوع الشمس

فاستأنف تهذيب إطارك القديم

وأقم كيانا جديدا

مثل هذا الكيان هو الكيان الحق

وإلا فذاتك لا تزيد على أن تكون حلقة من دخان

بعد استعراض مختلف الأبعاد التي تكون الإنسان من منظور محمد إقبال آن أن نتساءل فيما إذا يقدم إقبال في فلسفته ملمحا متكاملا للإنسان من منظور إسلامي، وما هي خصائص هذا الملمح؟



ملمح الإنسان عند إقبال

شرح إقبال طبيعة العالم الذي لم يخلقه الله عبثا أو كتلة جامدة بل هو عالم خلق بالحق، "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون"، وهو أيضا عالم قابل للزيادة والإمتداد "يزيد في الخلق ما يشاء". وهذا العالم حامل للأمل وللرجاء في طياته رغم كل شيء.

وبعد هذا الشرح، تساءل إقبال عن طبيعة الإنسان، وكإسهام في فهم هذه الطبيعة عمد إلى رسم ملمح للإنسان يمكن تلخيصه فيما يلي:

1- للإنسان قوة متوازنة على أحسن ما يكون؛ وذلك هبة من الله، فهو موهوب بالملكة.

2- الإنسان كائن قلق قادر على إنزال الألم بنفسه في سبيل بحثه الدائم عن آفاق جديدة يفصح بها عن نفسه.

3- الإنسان - على ما فيه من نقائص- أسمى من الطبيعة لأنه حمل أمانة عظمى (إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" (الأحزاب،72).

4- الإنسان قادر على تكييف و توجيه القوى المحيطة به إلى حيث يشاء.

5- الإنسان قادر على أن ينشيء في أعماق نفسه عالما يجد فيه منابع من السعادة والإلهام لا حد لهما ولا نهاية.

6- ليس للروح الإنسانية نظير بين جميع الحقائق في قوتها، وفي إلهامها، وفي جمالها.

7- الإنسان -كما صوره القرآن- قوة مبدعة وروح متصاعدة تسمو في سيرها قدما من حالة وجودية إلى حالة أخرى.

ولكي يسمو الإنسان إلى حياة أرقى مما هو عليه ينبغي له القيام بما يلي:

1- النهوض إلى العمل.

2- لكي يحقق الإنسان وجوده وتقدمه الروحي ينبغي له أن يحكم العلاقات بينه وبين الحقيقة التي يواجهها، وهذه العلاقات تنشئها المعرفة القائمة على الإدراك الحسي الذي يكمله الإدراك العقلي إلى جانب الملاحظة والروح التجريبية.

3- لتحقيق إدراك الحقيقة إدراكا كاملا ينبغي أن يكمل الإدراك الحسي بإدراك آخر هو ما يصفه الإنسان بإدراك "الفؤاد" أو "القلب"؛ والقلب نوع من علم الباطن أو ما يسميه إقبال البداهة.

ومن الملاحظ أن وصف إقبال للإنسان وكيفية رقيه يغلب عليهما الطابع الفلسفي بل والطابع الأخلاقي بصفة أدق حيث يصف الإنسان كما ينبغي له أن يكون باعتباره خليفة الله على الأرض، وليس كما هو كائن يسمو ويرقى إلى أعلى الدرجات، كما قد يكبو ويتدحرج إلى أسفل الدركات، وهكذا يستمر الأمر مع إمكانية تغلب الرقي عن التقهقر أو العكس في بعض الحالات.

وهذه الحركة أو السيرورة في الصعود والهبوط صادقة بالنسبة للإنسان كفرد وكجماعات وحضارات، وهي من سنن الله في خلقه. ولعل غلبة هذه النظرة في فكر إقبال راجع إلى المنهج الفلسفي الذي اعتمده؛ وهو المنهج المثالي الذي يغلب عليه الطابع الأخلاقي بدلا من إخضاع هذا الفكر الفلسفي لمناهج العلوم الاجتماعية التي ترتبط بالواقع أكثر من المنهج الفلسفي المثالي.

ومهما يكن، فقد قدم إقبال نظرة شبه متكاملة للإنسان من منظور فلسفي-إسلامي. وبالرغم من تغلب الطابع النظري على هذه النظرة، فإنها قد تشكل قاعدة لصياغة فرضيات وتصورات قابلة للفحص وللقبول والدحض من خلال مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة.

----------

المراجع والمصادر



المراجع العربية:

إقبال محمد (1968): تجديد الفكر الديني، ترجمة: عباس محمود، ط2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة.

إقبال محمد (بدون تاريخ): في السماء، ترجمة وتقديم: حسين نجيب المصري، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

الأفكاري سلطان علي (بدون تاريخ): الترابط بين العرفان والفلسفة عند إقبال في كتاب "نداء إقبال" (أعمال مؤتمر عقد بدمشق، بدون تاريخ).

نجيب الكيلاني (1959): إقبال الشاعر الثائر، ط1، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة.

المراجع الأجنبية:

Sharif M. M. "About Iqbal and His Thought". Institute of Islamic Culture, Lahore, 2nd Ed.1976. P.73.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بالزوار الجدد

الجديد هيلاقي اسمه اول اسم فى القايمه بلون اخضر يضغط عليه كليك ويغيره ويكتب اسم مستعار وكمان يقدر يغير الصورة

اعـــــــز اصحـــــــــاب

شااااااااااااااهد جميع المباريات على قناة الجزيرة

اجمل صور

اجمل صور
شاهد ارق الصور